العقلاء ، أي فلا تكونوا أنتم المجانين ، وهذا كقول أبي تمام للذين قالا له : «لم تقول ما لا يفهم» قال : «لم لا تفهمان ما يقال».
(قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (٢٩))
لمّا لم يجد فرعون لحجاجه نجاحا ورأى شدة شكيمة موسى في الحق عدل عن الحجاج إلى التخويف ليقطع دعوة موسى من أصلها. وهذا شأن من قهرته الحجة ، وفيه كبرياء أن ينصرف عن الجدل إلى التهديد.
واللام في قوله : (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً) موطئة للقسم. والمعنى أن فرعون أكد وعيده بما يساوي اليمين المجملة التي تؤذن بها اللام الموطئة في اللغة العربية كأن يكون فرعون قال : عليّ يمين ، أو بالأيمان ، أو أقسم. وفعل (اتَّخَذْتَ) للاستمرار ، أي أصررت على أن لك إلها أرسلك وأن تبقى جاحدا للإله فرعون ، وكان فرعون معدودا إلها للأمة لأنه يمثل الآلهة وهو القائم بإبلاغ مرادها في الأمة ، فهو الواسطة بينها وبين الأمة.
ومعنى : (لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) لأسجننك ، فسلك فيه طريقة الإطناب لأنه أنسب بمقام التهديد لأنه يفيد معنى لأجعلنك واحدا ممن عرفت أنهم في سجني ، فالمقصود تذكير موسى بهول السجن. وقد تقدم أن مثل هذا التركيب يفيد تمكن الخبر من المخبر عنه عند قوله تعالى : (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) في سورة البقرة [٦٧]. وقد كان السجن عندهم قطعا للمسجون عن التصرف بلا نهاية ، فكان لا يدري متى يخرج منه قال تعالى : (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) [يوسف : ٤٢].
[٣٠ ـ ٣٣] (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (٣٠) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣))
لما رأى موسى من مكابرة فرعون عن الاعتراف بدلالة النظر ما لا مطمع معه إلى الاسترسال في الاستدلال لأنه متعام عن الحق عدل موسى إلى إظهار آية من خوارق العادة دلالة على صدقه ، وعرض عليه ذلك قبل وقوعه ليسد عليه منافذ ادعاء عدم الرضى بها.
واستفهمه استفهاما مشوبا بإنكار واستغراب على تقدير عدم اجتزاء فرعون بالشيء