(وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤))
أكد قوله في صدر خطابه (فَاتَّقُوا اللهَ) [الشعراء : ١٧٩] بقوله هنا : (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) وزاد فيه دليل استحقاقه التقوى بأن الله خلقهم وخلق الأمم من قبلهم ، وباعتبار هذه الزيادة أدخل حرف العطف على فعل (اتَّقُوا) ولو كان مجرد تأكيد لم يصح عطفه. وفي قوله : (الَّذِي خَلَقَكُمْ) إيماء إلى نبذ اتقاء غيره من شركائهم.
و (الْجِبِلَّةَ) : بكسر الجيم والباء وتشديد اللام : الخلقة ، وأريد به المخلوقات لأن الجبلة اسم كالمصدر ولهذا وصف ب (الْأَوَّلِينَ). وقيل : أطلق الجبلة على أهلها ، أي وذوي الجبلة الأولين. والمعنى : الذي خلقكم وخلق الأمم قبلكم.
[١٨٥ ـ ١٨٨] (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨))
نفوا رسالته عن الله كناية وتصريحا فزعموه مسحورا ، أي مختل الإدراك والتصورات من جرّاء سحر سلط عليه. وذلك كناية عن بطلان أن يكون ما جاء به رسالة عن الله. وفي صيغة (مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) من المبالغة ما تقدم في قوله : (مِنَ الْمَرْجُومِينَ) [الشعراء : ١١٦] (مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) [الشعراء : ١٥٣] (مِنَ الْمُخْرَجِينَ) [الشعراء : ١٦٧].
والإتيان بواو العطف في قوله : (وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) يجعل كونه بشرا إبطالا ثانيا لرسالته. وترك العطف في قصة ثمود يجعل كونه بشرا حجة على أن ما يصدر منه ليس وحيا على الله بل هو من تأثير كونه مسحورا. فمآل معنيي الآيتين متّحد ولكن طريق إفادته مختلف وذلك على حسب أسلوب الحكايتين.
وأطلق الظن على اليقين في (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) وهو إطلاق شائع كقوله : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) [البقرة : ٤٦] ، وقرينته هنا دخول اللام على المفعول الثاني ل (ظنّ) لأن أصلها لام قسم.
و (إِنْ) مخففة من الثقيلة ، واللام في (لَمِنَ الْكاذِبِينَ) اللام الفارقة ، وحقها أن تدخل على ما أصله الخبر فيقال هنا مثلا : وإن أنت لمن الكاذبين ، لكن العرب توسعوا في المخففة فكثيرا ما يدخلونها على الفعل الناسخ لشدة اختصاصه بالمبتدإ والخبر فيجتمع