في الجملة حينئذ ناسخان مثل قوله تعالى : (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً) [البقرة : ١٤٣] وكان أصل التركيب في مثله : ونظنّ أنك لمن الكاذبين ، فوقع تقديم وتأخير لأجل تصدير حرف التوكيد لأن (إنّ) وأخواتها لها صدر الكلام ما عدا (أنّ) المفتوحة. وأحسب أنهم ما يخفّفون (إنّ) إلا عند إرادة الجمع بينها وبين فعل من النواسخ على طريقة التنازع ، فالذي يقول : إن أظنك لخائفا ، أراد أن يقول : أظن إنّك لخائف ، فقدم (إنّ) وخففها وصيّر خبرها مفعولا لفعل الظن ، فصار : إن أظنّك لخائفا ، والكوفيون يجعلون (إِنْ) في مثل هذا الموقع حرف نفي ويجعلون اللام بمعنى (إلّا).
والآمر في (فَأَسْقِطْ) أمر تعجيز.
والكسف بكسر الكاف وسكون السين في قراءة من عدا حفصا : القطعة من الشيء. وقال في «الكشاف» : هو جمع كسفة مثل قطع وسدر. والأول أظهر ، قال تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً) [الطور : ٤٤].
وقرأ حفص (كِسَفاً) بكسر الكاف وفتح السين على أنه جمع كسف كما في قوله: (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) ، وقد تقدم في سورة الإسراء [٩٢].
وقولهم : (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) كقول ثمود : (فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الشعراء : ١٥٤] إلا أنّ هؤلاء عينوا الآية فيحتمل أن تعيينها اقتراح منهم ، ويحتمل أن شعيبا أنذرهم بكسف يأتي فيه عذاب. وذلك هو يوم الظّلّة المذكور في هذه الآية ، فكان جواب شعيب بإسناد العلم إلى الله فهو العالم بما يستحقونه من العذاب ومقداره. و (أَعْلَمُ) هنا مبالغة في العالم وليس هو بتفضيل.
(فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩))
(الظُّلَّةِ) : السحابة ، كانت فيها صواعق متتابعة أصابتهم فأهلكتهم كما تقدم في سورة الأعراف. وقد كان العذاب من جنس ما سألوه ، ومن إسقاط شيء من السماء.
وقوله : (فَكَذَّبُوهُ) الفاء فصيحة ، أي فتبين من قولهم : (إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) [الشعراء : ١٨٥] أنهم كذبوه ، أي تبين التكذيب والثبات عليه بما دلّ عليه ما قصدوه من تعجيزه إذ قالوا : (فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الشعراء : ١٨٧]. وفي إعادة فعل التكذيب إيقاظ للمشركين بأن حالهم كحال أصحاب شعيب فيوشك أن يكون عقابهم كذلك.