كلام مثل القرآن فما كان لشياطين الكهان أن يفيضوا على نفوس أوليائهم مثل هذا القرآن. فالكهانة من كذب الكهان وتمويههم ، وأخبار الكهان كلها أقاصيص وسّعها الناقلون.
فالتعريف في (السَّمْعِ) للعهد وهو ما يعتقده العرب من أن الشياطين تسترق السمع ، أي تتحيّل على الاتصال بعلم ما يجري في الملإ الأعلى. ذلك أن الكهان كانوا يزعمون أن الجن تأتيهم بأخبار ما يقدّر في الملأ الأعلى مما سيظهر حدوثه في العالم الأرضي ، فلذلك نفي هنا تنزّل الشياطين بكلام القرآن بناء على أن المشركين يزعمون أن الشياطين تنزل من السماء بأخبار ما سيكون. وبيان ذلك تقدم في سورة الحجر ويأتي في سورة الصافات.
ومعنى : (وَما يَنْبَغِي لَهُمْ) ما يستقيم وما يصح ، أي لا يستقيم لهم تلقي كلام الله تعالى الذي الشأن أن يتلقاه الروح الأمين ، وما يستطيعون تلقيه لأن النفوس الشيطانية ظلمانية خبيثة بالذات فلا تقبل الانتقاش بصور ما يجري في عالم الغيب ، فإن قبول فيضان الحق مشروط بالمناسبة بين المبدأ والقابل.
فضمير (يَنْبَغِي) عائد إلى ما عاد عليه ضمير (بِهِ) ، أي ما ينبغي القرآن لهم ، أي ما ينبغي أن ينزلوا به كما زعم المشركون. ومفعول (يَسْتَطِيعُونَ) محذوف ، أي ما يستطيعونه. وأعيدت الضمائر بصيغة العقلاء بعد أن أضمر لهم بضمير غير العقلاء في قوله : (وَما تَنَزَّلَتْ) اعتبارا بملابسة ذلك للكهان. وقد تقدم في سورة الحجر أن صنفا من الشياطين يتهيّأ للتلقي بما يسمّى استراق السمع وأنه يصرف عنه بالشّهب. واستؤنف ب (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) فكان ذلك كالفذلكة لما قبله وهو بعمومه يتنزل منزلة التذييل.
والمعزول : المبعد عن أمر فهو في عزلة عنه. وفي هذا إبطال للكهانة من أصلها وهي وإن كانت فيها شيء من الاتصال بالقوى الروحية في سالف الزمان فقد زال ذلك منذ ظهور الإسلام.
(فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣))
لما وجه الخطاب إلى النبي صلىاللهعليهوسلم من قوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) [الشعراء : ١٩٣ ، ١٩٤] إلى هنا ، في آيات أشارت بنزول القرآن من عند الله تعالى وحققت صدقه بأنه مذكور في كتب الأنبياء السالفين وشهد به علماء بني إسرائيل ، وأنحى على المشركين