لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) [يس : ٦٠]. جمع سليمان بين دعوتها إلى مسالمته وطاعته وذلك تصرف بصفة الملك ، وبين دعوة قومها إلى اتباع دين التوحيد وذلك تصرف بالنبوءة لأن النبي يلقي الإرشاد إلى الهدى حيثما تمكّن منه كما قال شعيب (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) [هود : ٨٨] وهذا نظير قول يوسف لصاحبي السجن (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) [يوسف : ٣٩] الآية. وإن كان لم يرسل إليهم ، فالأنبياء مأمورون أمرا عاما بالإرشاد إلى الحق ، وكذلك دعاء سليمان هنا ، وقال النبي صلىاللهعليهوسلم «لأن يهدي الله بك رجلا خير لك من حمر النعم» فهذه سنة الشرائع لأن الغاية المهمة عندها هو إصلاح النفوس دون التشفي وحب الغلبة.
وحرف (أن) من قوله : (أَنْ لا تَعْلُوا عَلَى) في موقعه غموض لأن الظاهر أنه مما شمله كتاب سليمان لوقوعه بعد البسملة التي هي مبدأ الكتاب. وهذا الحرف لا يخلو من كونه (أن) المصدرية الناصبة للمضارع ، أو المخففة من الثقيلة ، أو التفسيرية.
فأما معنى (أن) المصدرية الناصبة للمضارع فلا يتضح لأنها تستدعي عاملا يكون مصدرها المنسبك بها معمولا له وليس في الكلام ما يصلح لذلك لفظا مطلقا ولا معنى إلا بتعسف ، وقد جوزه ابن هشام في «مغني اللبيب» في بحث (ألّا) الذي هو حرف تحضيض وهو وجهة شيخنا محمد النجار رحمهالله بأن يجعل (أَنْ لا تَعْلُوا) إلخ خبرا عن ضمير (كِتابٌ) في قوله : (وَإِنَّهُ) فحيث كان مضمون الكتاب النهي عن العلو جعل (أَلَّا تَعْلُوا) نفس الكتاب كما يقع الإخبار بالمصدر. وهذا تكلف لأنه يقتضي الفصل بين أجزاء الكتاب بقوله : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).
وأما معنى المخففة من الثقيلة فكذلك لوجوب سدّ مصدر مسدّها وكونها معمولة لعامل ، وليس في الكلام ما يصلح لذلك أيضا. وقد ذكر وجها ثالثا في الآية في بعض نسخ «مغني اللبيب» في بحث (ألّا) أيضا ولم يوجد في النسخ الصحيحة من «المغني» ولا من «شروحه» ولعله من زيادات بعض الطلبة. وقد اقتصر في «الكشاف» على وجه التفسيرية لعلمه بأن غير ذلك لا ينبغي أن يفرض. وأعقبه بما روي من نسخة كتاب سليمان ليظهر أن ليس في كتاب سليمان ما يقابل حرف (أن) فلذلك تتعين (أن) لمعنى التفسيرية لضمير (وَإِنَّهُ) العائد إلى (كِتابٌ) كما علمته آنفا لأنه لما كان عائدا إلى (كِتابٌ) كان بمعنى معاده فكان مما فيه معنى القول دون حروفه فصح وقع (أن) بعده فيكون (أن) من كلام ملكة سبأ فسّرت بها وبما بعدها مضمون (كِتابٌ) في قولها : (أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ).