عمون لحصل المراد. ولكن جاءت طريقة التدرج بالإضراب الانتقالي أجزل وأبهج وأروع وأدل على أن كلا من هذه الأحوال المترتبة جدير بأن يعتبر فيه المعتبر باستقلاله لا بكونه متفرعا على ما قبله ، وهذا البيان هو ما أشرت إليه آنفا عند الكلام على قراءة الجمهور (ادَّارَكَ) من خفاء توجيه الإضرابين اللذين بعد الإضراب الأول.
وضمائر جمع الغائبين في قوله (يَشْعُرُونَ) ، و (يُبْعَثُونَ) ، (عِلْمُهُمْ) ، (هُمْ فِي شَكٍ) ، (هُمْ مِنْها عَمُونَ) عائدة إلى (من) الموصولة في قوله تعالى (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ). و (من) هذه وإن كانت من صيغ العموم فالضمائر المذكورة عائدة إليها بتخصيص عمومها ببعض من في الأرض وهم الذين يزعمون أنهم يعلمون الغيب من الكهان والعرّافين وسدنة الأصنام الذين يستقسمون للناس بالأزلام ، وهو تخصيص لفظي من دلالة السياق وهو من قسم المخصص المنفصل اللفظي. والخلاف الواقع بين علماء الأصول في اعتبار عود الضمير إلى بعض أفراد العام مخصصا للعموم يقرب من أن يكون خلافا لفظيا. ومنه قوله تعالى (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) [البقرة : ٢٢٨] فإن ضمير (بُعُولَتُهُنَ) عائد إلى المطلقات الرجعيات من قوله تعالى (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) [البقرة : ٢٢٨] الذي هو عام للرجعيات وغيرهن.
وبهذا تعلم أن التعبير ب (الَّذِينَ كَفَرُوا) [النمل : ٦٧] هنا ليس من الإظهار في مقام الإضمار لأن الذين كفروا أعم من ما صدق (من) في قوله (لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ).
[٦٧ ـ ٦٨] (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨))
أعقب وصف عماية الزاعمين علم الغيب بذكر شبهتهم التي أرتهم البعث مستحيل الوقوع ، ولذلك أسند القول هنا إلى جميع الذين كفروا دون خصوص الذين يزعمون علم الغيب ، ولذلك عطفت الجملة لأنها غايرت التي قبلها بأنها أعم.
والتعبير عنهم باسم الموصول لما في الموصول من الإيماء إلى علة قولهم هذه المقالة وهي ما أفادته الصلة من كونهم كافرين فكأنه قيل وقالوا بكفرهم أإذا كنا ترابا .. إلى آخره استفهاما بمعنى الإنكار.