حيث جاء ب (من) التي تدخل على النكرة في سياق النفي لقصد التنصيص على العموم وشواهده كثيرة. ولعل أصل ذلك أنه استفهام عن النفي لقصد التقرير بالنفي. والتقدير : هل لا تجزون إلا ما كنتم تعملون ، فلما اقترن به الاستثناء غالبا والحرف الزائد في النفي في بعض المواضع حذفوا النافي وأشربوا حرف الاستفهام معنى النفي اعتمادا على القرينة فصار مفاد الكلام نفيا وانسلخت (هل) عن الاستفهام فصارت مفيدة النفي. وقد أشرنا إلى هذه الآية عند قوله تعالى (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) في الأعراف [١٤٧].
[٩١ ـ ٩٢] (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢))
أتت هذه السورة على كثير من مطاعن المشركين في القرآن وفيما جاء به من أصول الإسلام من التوحيد والبعث والوعيد بأفانين من التصريح والتضمن والتعريض بأحوال المكذبين السالفين مفصلا ذلك تفصيلا ابتداء من قوله (تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) [النمل : ١ ، ٢] إلى هنا ، فلما كان في خلال ذلك إلحافهم على الرسول صلىاللهعليهوسلم أن يأتيهم بما وعدهم أو أن يعين لهم أجل ذلك ويقولون (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [النمل : ٧١].
وأتت على دحض مطاعنهم وتعللاتهم وتوركهم بمختلف الأدلة قياسا وتمثيلا ، وثبت الله رسوله بضروب من التثبيت ابتداء من قوله (إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً) [النمل : ٧] وقوله (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) [النمل : ٧٩] ، وما صاحب ذلك من ذكر ما لقيه الرسل السابقون. بعد ذلك كله استؤنف الكلام استئنافا يكون فذلكة الحساب ، وختاما للسورة وفصل الخطاب ، أفسد به على المشركين ازدهاءهم بما يحسبون أنهم أفحموا الرسول صلىاللهعليهوسلم بما ألقوه عليه ويطير غراب غرورهم بما نظموه من سفسطة ، وجاءوا به من خليطة ، ويزيد الرسول تثبيتا وتطمينا بأنه أرضى ربه بأداء أمانة التبليغ وذلك بأن أمر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقول لهم (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها) فهذا تلقين للرسول صلىاللهعليهوسلم. والجملة مقول قول محذوف دل عليه ما عطف عليه في هذه الآية مرتين وهو (فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) [النمل : ٩٢ ، ٩٣] فإن الأول : مفرّع عليه فهو متصل به.