(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢))
عود إلى معاذيرهم وتعلّلاتهم الفاسدة إذ طعنوا في القرآن بأنه نزّل منجّما وقالوا : لو كان من عند الله لنزل كتابا جملة واحدة. وضمير (وَقالَ) ظاهر في أنه عائد إلى المشركين ، وهذه جهالة منهم بنسبة كتب الرسل فإنها لم ينزل شيء منها جملة واحدة وإنما كانت وحيا مفرّقا ؛ فالتوراة التي أنزلت على موسى عليهالسلام في الألواح هي عشر كلمات بمقدار سورة الليل في القرآن ، وما كان الإنجيل إلا أقوالا ينطق بها عيسى عليهالسلام في الملإ ، وكذلك الزبور نزل قطعا كثيرة ، فالمشركون نسوا ذلك أو جهلوا فقالوا : هلّا نزل القرآن على محمد جملة واحدة فنعلم أنه رسول الله. وقيل : إن قائل هذا اليهود أو النصارى ، فإن صح ذلك فهو بهتان منهم لأنهم يعلمون أنه لم تنزل التوراة والإنجيل والزبور إلا مفرقة. فخوض المفسرين في بيان الفرق بين حالة رسولنا من الأمية وحالة الرسل الذين أنزلت عليهم الكتب اشتغال بما لا طائل فيه ، فإن تلك الكتب لم تنزل أسفارا تامة قط.
و (نُزِّلَ) هنا مرادف أنزل وليس فيه إيذان بما يدل عليه التفعيل من التكثير كما تقدم في المقدمة الأولى من مقدمات هذا التفسير بقرينة قولهم : (جُمْلَةً واحِدَةً).
وقد جاء قوله : (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) ردّا على طعنهم ، فهو كلام مستأنف فيه ردّ لما أرادوه من قولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) وعدل فيه عن خطابهم إلى خطاب الرسول عليه الصلاة والسلام إعلاما له بحكمة تنزيله مفرّقا ، وفي ضمنه امتنان على الرسول بما فيه تثبيت قلبه والتيسير عليه.
وقوله : (كَذلِكَ) جواب عن قولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) إشارة إلى الإنزال المفهوم من «لو نزّل عليه القرآن» وهو حالة إنزال القرآن منجّما ، أي أنزلناه كذلك الإنزال ، أي المنجّم ، أي كذلك الإنزال الذي جهلوا حكمته ، فاسم الإشارة في محلّ نصب على أنه نائب عن مفعول مطلق جاء بدلا عن الفعل. فالتقدير : أنزلناه إنزالا كذلك الإنزال المنجّم. فموقع جملة (كَذلِكَ) موقع الاستئناف في المحاورة. واللام في (لِنُثَبِّتَ) متعلقة بالفعل المقدّر الذي دلّ عليه (كَذلِكَ). والتثبيت : جعل الشيء ثابتا. والثبات : استقرار الشيء في مكانه غير متزلزل قال تعالى : (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ)