يفصح المفسرون عن معنى هذه الجملة إفصاحا شافيا.
والالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله : (ثُمَّ جَعَلْنَا) لأن ضمير المتكلم أدخل في الامتنان من ضمير الغائب فهو مشعر بأن هذا الجعل نعمة وهي نعمة النور الذي به تمييز أحوال المرئيات وعليه فقوله [تعالى] : (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) ارتقاء في المنّة.
والدليل : المرشد إلى الطريق والهادي إليه ، فجعل امتداد الظل لاختلاف مقاديره كامتداد الطريق وعلامات مقادير مثل صوى الطريق ، وجعلت الشمس من حيث كانت سببا في ظهور مقادير الظل كالهادي إلى مراحل ، بطريقة التشبيه البليغ ، فكما أن الهادي يخبر السائر أين ينزل من الطريق ، كذلك الشمس بتسببها في مقادير امتداد الظل تعرّف المستدل بالظل بأوقات أعماله ليشرع فيها.
وتعدية (دَلِيلاً) بحرف (على) تفيد أن دلالة الشمس على الظل هنا دلالة تنبيه على شيء قد يخفى كقول الشاعر :
«إلا عليّ دليل» (١)
وشمل هذا حالتي المد والقبض.
وجملة (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا) إلخ عطف على جملة (مَدَّ الظِّلَ) ، أو على جملة (جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) لأن قبض الظل من آثار جعل الشمس دليلا على الظل.
و (ثُمَ) الثانية مثل الأولى مفيدة التراخي الرتبي ، لأن مضمون جملة (قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) أهم في الاعتبار بمضمونها من مضمون (جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) إذ في قبض الظل دلالة من دلالة الشمس هي عكس دلالتها على امتداده فكانت أعجب إذ هي عمل ضدّ للعمل الأول ، وصدور الضدين من السبب الواحد أعجب من صدور أحدهما السابق في الذكر.
والقبض : ضد المدّ فهو مستعمل في معنى النقص ، أي نقصنا امتداده ، والقبض هنا استعارة للنقص. وتعديته بقوله : (إِلَيْنا) تخييل ، شبّه الظل بحبل أو ثوب طواه صاحبه بعد أن بسطه على طريقة المكنية ، وحرف (إلى) ومجروره تخييل.
__________________
(١) أوله :
إلى الله أشكو أنني لست ماشيا |
|
ولا جائيا إلا عليّ دليل |
أي : رقيب يدل عليّ.