وموقع وصف القبض بيسير هنا أنه أريد أن هذا القبض يحصل ببطء دون طفرة ، فإن في التريث تسهيلا لقبضه لأن العمل المجزّأ أيسر على النفوس من المجتمع غالبا ، فأطلق اليسر وأريد به لازم معناه عرفا ، وهو التدريج ببطء ، على طريقة الكناية ، ليكون صالحا لمعنى آخر سنتعرض إليه في آخر كلامنا.
وتعدية القبض ب (إِلَيْنا) لأنه ضد المدّ الذي أسند إلى الله في قوله : (مَدَّ الظِّلَ). وقد علم من معنى (قَبَضْناهُ) أن هذا القبض واقع بعد المد فهو متأخر عنه.
وفي مدّ الظل وقبضه نعمة معرفة أوقات النهار للصلوات وأعمال الناس ، ونعمة التناوب في انتفاع الجماعات والأقطار بفوائد شعاع الشمس وفوائد الفيء بحيث إن الفريق الذي كان تحت الأشعة يتبرد بحلول الظلّ ، والفريق الذي كان في الظل ينتفع بانقباضه.
هذا محل العبرة والمنّة اللتين تتناولهما عقول النّاس على اختلاف مداركهم. ووراء ذلك عبرة علمية كبرى توضحها قواعد النظام الشمسي وحركة الأرض حول الشمس وظهور الظلمة والضياء ، فليس الظل إلا أثر الظلمة فإن الظلمة هي أصل كيفيات الأكوان ثم انبثق النور بالشمس ونشأ عن تداول الظلمة والنور نظام الليل والنهار وعن ذلك نظام الفصول وخطوط الطول والعرض للكرة الأرضية وبها عرفت مناطق الحرارة والبرودة.
ومن وراء ذلك إشارة إلى أصل المخلوقات كيف طرأ عليها الإيجاد بعد أن كانت عدما ، وكيف يمتد وجودها في طور نمائها ، ثم كيف تعود إلى العدم تدريجا في طور انحطاطها إلى أن تصير إلى العدم ، فذلك مما يشير إليه (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) فيكون قد حصل من التذكير بأحوال الظلّ في هذه الآية مع المنّة والدلالة على نظام القدرة تقريب لحالة إيجاد الناس وأحوال الشباب وتقدم السن ، وأنهم عقب ذلك صائرون إلى ربّهم يوم البعث مصيرا لا إحالة فيه ولا بعد ، كما يزعمون ، فلما صار قبض الظل مثلا لمصير الناس إلى الله بالبعث وصف القبض بيسير تلميحا إلى قوله : (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) [ق : ٤٤].
وفي هذا التمثيل إشارة إلى أن الحياة في الدنيا كظل يمتد وينقبض وما هو إلا ظل.
فهذان المحملان في الآية من معجزات القرآن العملية.
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧))