وضمير (بِهِ) عائد إلى غير مذكور : فإما أن يعود إلى القرآن لأنه مفهوم من مقام النّذارة ، وإما أن يعود إلى المفهوم من «لا تطع» وهو الثبات على دعوته بأن يعصيهم ، فإن النهي عن الشيء أمر بضده كما دل عليه قول أبي حيّة النميري :
فقلن لها سرّا فديناك لا يرح |
|
صحيحا وإن لم تقتليه فألمم |
فقابل قوله : «لا يرح صحيحا» بقوله : «وإن لم تقتليه فألمم» كأنه قال : فديناك فاقتليه.
والمعنى : قاومهم بصبرك. وكبر الجهاد تكريره والعزم فيه وشدّة ما يلقاه في ذلك من المشقة. وهذا كقول النبي صلىاللهعليهوسلم لأصحابه عند قفوله من بعض غزواته «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر». قالوا : «وما الجهاد الأكبر»؟ ـ قال : مجاهدة العبد هواه». رواه البيهقي بسند ضعيف.
(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣))
عود إلى الاستدلال على تفرده تعالى بالخلق. جمعت هذه الآية استدلالا وتمثيلا وتثبيتا ووعدا ؛ فصريحها استدلال على شيء عظيم من آثار القدرة الإلهية وهو التقاء الأنهار والأبحر كما سيأتي ، وفي ضمنها تمثيل لحال دعوة الإسلام في مكة يومئذ واختلاط المؤمنين مع المشركين بحال تجاوز البحرين : أحدهما عذب فرات والآخر ملح أجاج. وتمثيل الإيمان بالعذب الفرات والشرك بالملح الأجاج ، وأن الله تعالى كما جعل بين البحرين برزخا يحفظ العذب من أن يكدره الأجاج ، كذلك حجز بين المسلمين والمشركين فلا يستطيع المشركون أن يدسّوا كفرهم بين المسلمين. وفي هذا تثبيت للمسلمين بأن الله يحجز عنهم ضر المشركين لقوله : (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) [آل عمران : ١١١]. وفي ذلك تعريض كنائي بأن الله ناصر لهذا الدين من أن يكدره الشرك.
ولأجل ما فيها من التمثيل والتثبيت والوعد كان لموقعها عقب جملة (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً) [الفرقان : ٥٢] أكمل حسن. وهي معطوفة على جملة (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ) نشرا (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) [الفرقان : ٤٨]. ومناسبة وقوعها عقب التي قبلها أن كلتيهما استدلال بآثار القدرة في تكوين المياه المختلفة. ومفاد القصر هنا نظير ما تقدم في الآيتين السابقتين.