(أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢))
الاستفهام في (أَحَسِبَ) مستعمل في الإنكار ، أي إنكار حسبان ذلك. وحسب بمعنى ظن ، وتقدم في قوله تعالى (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) في سورة البقرة [٢١٤]. والمراد بالناس كل الذين آمنوا ، فالقول كناية عن حصول المقول في نفس الأمر ، أي أحسب الناس وقوع تركهم لأن يقولوا آمنا ، فقوله (أَنْ يُتْرَكُوا) مفعول أول ل (حَسِبَ). وقوله (أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا) شبه جملة في محل المفعول الثاني وهو مجرور بلام جر محذوف مع (أن) حذفا مطردا ، والتقدير : أحسب الناس تركهم غير مفتونين لأجل قولهم : آمنا ، فإن أفعال الظن والعلم لا تتعدى إلى الذوات وإنما تتعدى إلى الأحوال والمعاني وكان حقها أن يكون مفعولها واحدا دالا على حالة ، ولكن جرى استعمال الكلام على أن يجعلوا لها اسم ذات مفعولا ، ثم يجعلوا ما يدل على حالة للذات مفعولا ثانيا. ولذلك قالوا : إن مفعولي أفعال القلوب (أي العلم ونحوه) أصلهما مبتدأ وخبر.
والترك : عدم تعهد الشيء بعد الاتصال به.
والترك هنا مستعمل في حقيقته لأن الذين آمنوا قد كانوا مخالطين للمشركين ومن زمرتهم ، فلما آمنوا اختصوا بأنفسهم وخالفوا أحوال قومهم وذلك مظنة أن يتركهم المشركون وشأنهم ، فلما أبى المشركون إلا منازعتهم طمعا في إقلاعهم عن الإيمان وقع ذلك منهم موقع المباغتة والتعجب ، وتقدم الترك المجازي في قوله تعالى (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) أوائل البقرة [١٧].
و (أَنْ يَقُولُوا) في موضع نصب على نزع الخافض الذي هو لام التعليل. والتقدير : لأجل أن يقولوا آمنا.
وجملة (وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) حال ، أي لا يحسبوا أنهم سالمون من الفتنة إذا آمنوا.
والفتن والفتون : فساد حال الناس بالعدوان والأذى في الأنفس والأموال والأهلين. والاسم : الفتنة ، وقد تقدم عند قوله تعالى (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ) في سورة البقرة [١٠٢].
وبناء فعلي (يُتْرَكُوا) ... و (يُفْتَنُونَ) للمجهول للاستغناء عن ذكر الفاعل لظهور أن الفاعل قوم ليسوا بمؤمنين ، أي أن يتركوا خالين عن فتون الكافرين إياهم لما هو معروف من الأحداث قبيل نزولها ، ولما هو معلوم من دأب الناس أن يناصبوا العداء من خالفهم