وهذا من أساليب الجدل وهو الذي يسمى القول بالموجب وهو تسليم الدليل مع بقاء النزاع ، ومنه في القرآن قوله تعالى : (قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [إبراهيم : ١٠ ، ١١] فعلم أنه لا تعارض بين الإحسان إلى الوالدين وبين إلغاء أمرهما بما لا يرجع إلى شأنهما.
والتوصية : كالإيصاء ، يقال : أوصى ووصّى ، وهي أمر بفعل شيء في مغيب الآمر به ففي الإيصاء معنى التحريض على المأمور به ، وتقدم في قوله تعالى (الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ) [البقرة : ١٨٠] وقوله (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ) في البقرة [١٣٢].
وفعل الوصاية يتعدى إلى الموصى عليه بالباء ، تقول : أوصى بأبنائه إلى فلان ، على معنى أوصى بشئونهم ، ويتعدى إلى الفعل المأمور به بالباء أيضا وهو الأصل مثل (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) [البقرة : ١٣٢]. فإذا جمع بين الموصى عليه والموصى به تقول : أوصى به خيرا وأصله : أوصى به بخير له فكان أصل التركيب بدل اشتمال. وغلب حذف الباء من البدل اكتفاء بوجودها في المبدل منه فكذلك قوله تعالى هنا (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) تقديره : وصينا الإنسان بوالديه بحسن ، بنزع الخافض.
والحسن : اسم مصدر ، أي بإحسان. والجملة (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي) عطف على جملة (وَصَّيْنَا) وهو بتقدير قول محذوف لأن المعطوف عليه فيه معنى القول.
والمجاهدة : الإفراط في بذل الجهد في العمل ، أي ألحّا لأجل أن تشرك بي.
والمراد بالعلم في قوله : (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) العلم الحق المستند إلى دليل العقل أو الشرع ، أي أن تشرك بي أشياء لا تجد في نفسك دليلا على استحقاقها العبادة كقوله تعالى (فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) [هود : ٤٦] ، أي علم بإمكان حصوله. وفي «الكشاف» : أن نفي العلم كناية عن نفي المعلوم ، كأنه قال : أن تشرك بي شيئا لا يصح أن يكون إلها ، أي لا يصح أن يكون معلوما يعني أنه من باب قولهم : هذا ليس بشيء كما صرح به في تفسير سورة لقمان [٣٠] كقوله تعالى (ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ)(١).
وجملة : (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) مستأنفة استئنافا بيانيا لزيادة تحقيق ما أشارت إليه مقدمة
__________________
(١) في المطبوعة (من شيء).