في هذا الشأن لا يقتضي أنهم أعلم من إبراهيم في غيره فإن لإبراهيم علم النبوءة والشريعة وسياسة الأمة ، والملائكة يسبحون الليل والنهار لا يفترون ولا يشتغلون بغير ذلك إلا متى سخرهم الله لعمل. وبالأولى لا يقتضي كونهم أعلم بهذا منه أن يكونوا أفضل من إبراهيم ، فإن قول أهل الحق إن الرسل أفضل من الملائكة ، والمزية لا تقتضي الأفضلية ، ولكل فريق علم أطلعه الله عليه وخصه به كما خص الخضر بما لم يعلمه موسى ، وخص موسى بما لا يعلمه الخضر ، ولذلك عتب الله على موسى لما سئل : هل يوجد أعلم منك؟ فقال : لا ، لأنه كان حق الجواب أن يفكر في أنواع العلم.
وجملة (لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ) بيان لجملة (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها) فلذلك لم تعطف عليها وفصلت ، فقد علموا بإذن الله أن لا ينجو إلا لوط وأهله ، أي بنتاه لا غير ويهلك الباقون حتى امرأة لوط.
وفعل (كانَتْ) مستعمل في معنى تكون ، فعبر بصيغة الماضي تشبيها للفعل المحقق وقوعه بالفعل الذي مضى مثل قوله (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] ، ويجوز أن يكون مرادا به الكون في علم الله وتقديره ، كما في آية النمل [٥٧] (قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) فتكون صيغة الماضي حقيقة.
وتقدم الكلام على نظير قوله (إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) في سورة النمل.
(وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣))
قد أشعر قوله (إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) [العنكبوت : ٣١] أن الملائكة يحلون بالقرية واقتضى ذلك أن يخبروا لوطا بحلولهم بالقرية ، وأنهم مرسلون من عند الله استجابة لطلب لوط النصر على قومه ، فكان هذا المجيء مقدرا حصوله ، فمن ثم جعل شرطا لحرف (لَمَّا) كما تقدم آنفا في قوله (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) [العنكبوت : ٣١].
و (أَنْ) حرف مزيد للتوكيد وأكثر ما يزاد بعد (لَمَّا) وهو يفيد تحقيق الربط بين مضمون الجملتين اللتين بعد (لَمَّا) ، فهي هنا لتحقيق الربط بين مجيء الرسل ومساءة لوط بهم. ومعنى تحقيقه هنا سرعة الاقتران والتوقيت بين الشرط والجزاء تنبيها على أن الإساءة عقبت مجيئهم وفاجأته من غير ريث ، وذلك لما يعلم من عادة معاملة قومه مع الوافدين على قريتهم فلم يكون لوط عالما بأنهم ملائكة لأنهم جاءوا في صورة رجال فأريد هنا