«ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيئات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق حتى تريك المتخيل في صورة المتحقق والغائب كالمشاهد». وقد تقدم بيان مزية ضرب الأمثال عند قوله تعالى (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) في سورة البقرة [٢٦].
ولهذا اتبعت هذه الجملة بجملة (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ). والعقل هنا بمعنى الفهم ، أي لا يفهم مغزاها إلا الذين كملت عقولهم فكانوا علماء غير سفهاء الأحلام. وفي هذا تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بها جهلاء العقول ، فما بالك بالذين اعتاضوا عن التدبر في دلالتها باتخاذها هزءا وسخرية ، فقالت قريش لما سمعوا قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) [الحج : ٧٣] ، وقوله (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) [العنكبوت : ٤١] قالوا : ما يستحيي محمد أن يمثل بالذباب والعنكبوت والبعوض. وهذا من بهتانهم ، وإلا فقد علم البلغاء أن لكل مقام مقالا ، ولكل كلمة مع صاحبتها مقام.
(خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤))
بعد أن بيّن الله تعالى عدم انتفاع المشركين بالحجة ومقدماتها ونتائجها الموصلة إلى بطلان إلهية الأصنام مستوفاة مغنية لمن يريد التأمل والتدبر في صحة مقدماتها بإنصاف نقل الكلام إلى مخاطبة المؤمنين لإفادة التنويه بشأن المؤمنين إذ انتفعوا بما هو أدق من ذلك وهو حالة النظر والفكر في دلالة الكائنات على أن خالقها هو الله ، وأن لا شيء غيره حقيقا بمشاركته في إلهيته ، فأفاد أن المؤمنين قد اهتدوا إلى العلم ببطلان إلهية الأصنام خلافا للمشركين الذين لم يهتدوا بذلك. فأفهم ذلك أن من لم يعقلوها ليسوا بعالمين أخذا من مفهوم الصفة في قوله (لِلْمُؤْمِنِينَ) إذا اعتبر المعنى الوصفي من قوله (لِلْمُؤْمِنِينَ) ، أو أخذا من الاقتصار على ذكر المؤمنين في قوله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) إذا اعتبر عنوان المؤمنين لقبا.
والاقتصار عند ذكر دليل الوحدانية على انتفاع المؤمنين بتلك الدلالة المفيد بأن المشركين لم ينتفعوا بذلك يشبه الاحتباك بين الآيتين.
والباء في (بِالْحَقِ) للملابسة ، أي خلقهما على أحوالهما كلها بما ليس بباطل. والباطل في كل شيء لا وفاء فيه بما جعل هو له. وضد الباطل الحق ، فالحق في كل