تستلزمه تلك من متاركة المشركين والكف عن مجادلتهم بعد قوله تعالى (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [العنكبوت : ٤٣] كما تقدم آنفا. وقد كانت هذه توطئة لما سيحدث من الدعوة في المدينة بعد هجرة النبي صلىاللهعليهوسلم ، لأن مجادلة أهل الكتاب لا تعرض للنبي صلىاللهعليهوسلم ولا للمؤمنين في مكة ، ولكن لما كان النبي عليه الصلاة والسلام في إبان نزول أواخر هذه السورة على وشك الهجرة إلى المدينة وكانت الآيات السابقة مجادلة للمشركين غليظة عليهم من تمثيل حالهم بحال العنكبوت ، وقوله (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) هيأ الله لرسوله عليه الصلاة والسلام طريقة مجادلة أهل الكتاب. فهذه الآية معترضة بين محاجّة المشركين والعود إليها في قوله تعالى (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) [العنكبوت : ٤٧] الآيات.
وجيء في النهي بصيغة الجمع ليعمّ النبي صلىاللهعليهوسلم والمسلمين إذ قد تعرض للمسلمين مجادلات مع أهل الكتاب في غير حضرة النبي صلىاللهعليهوسلم أو قبل قدومه المدينة.
والمجادلة : مفاعلة من الجدل ، وهو إقامة الدليل على رأي اختلف فيه صاحبه مع غيره ، وقد تقدم في قوله تعالى : (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) في سورة النساء [١٠٧]. وبهذا يعلم أن لا علاقة لهذه الآية بحكم قتال أهل الكتاب حتى ينتقل من ذلك إلى أنها هل نسخت أم بقي حكمها لأن ذلك خروج بها عن مهيعها. والمجادلة تعرض في أوقات السلم وأوقات القتال.
و (أَهْلَ الْكِتابِ) : اليهود والنصارى في اصطلاح القرآن. والمقصود هنا اليهود فهم الذين كانوا كثيرين في المدينة والقرى حولها. ويشمل النصارى إن عرضت مجادلتهم مثل ما عرض مع نصارى نجران.
و (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) مستثنى من محذوف دل عليه المستثنى ، تقديره : لا تجادلوهم بجدال إلا بجدال بالتي هي أحسن. و (أَحْسَنُ) اسم تفضيل يجوز ان يكون على بابه فيقدر المفضّل عليه مما دلت عليه القرينة ، أي بأحسن من مجادلتكم المشركين ، أو بأحسن من مجادلتهم إياكم كما تدل عليه صيغة المفاعلة. ويجوز كون اسم التفضيل مسلوب المفاضلة لقصد المبالغة في الحسن ، أي إلا بالمجادلة الحسنى كقوله تعالى (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) في آخر سورة النحل [١٢٥]. فالله جعل الخيار للنبي صلىاللهعليهوسلم في مجادلة المشركين بين أن يجادلهم بالحسنى كما اقتضته آية سورة النحل ، وبين أن يجادلهم بالشدة كقوله : يا أيها النبي (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ) [التوبة : ٧٣] ، فإن الإغلاظ