التوحيد وإقامة الدين. وهذا هو المعيار في وجوب الهجرة من البلد الذي يفتن فيه المسلم في دينه وتجري عليه فيه أحكام غير إسلامية. والنداء بعنوان التعريف بالإضافة لتشريف المضاف. ومصطلح القرآن أن (عباد) إذا أضيف إلى ضمير الجلالة فالمراد بهم المؤمنون غالبا إلا إذا قامت قرينة كقوله : (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ) [الفرقان : ١٧] ، وعليه فالوصف ب (الَّذِينَ آمَنُوا) لما في الموصول من الدلالة على أنهم آمنوا بالله حقا ولكنهم فتنوا إلى حد الإكراه على إظهار الكفر.
والفاء في قوله : (فَإِيَّايَ) فاء التفريع والفاء في قوله : (فَاعْبُدُونِ) إما مؤكدة للفاء الأولى للدلالة على تحقيق التفريع في الفعل وفي معموله ، أي فلا تعبدوا غيري فاعبدون ؛ وإما مؤذنة بمحذوف هو ناصب ضمير المتكلم تأكيدا للعبادة. والتقدير : وإياي اعبدوا فاعبدون ، وهو أنسب بدلالة التقديم على الاختصاص لأنه لما أفاد الأمر بتخصيصه بالعبادة كان ذكر الفاء علامة تقدير على تقدير فعل محذوف قصد من تقديره التأكيد ، وقد تقدم في قوله تعالى : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) في أوائل سورة البقرة [٤٠].
وحذفت ياء المتكلم بعد نون الوقاية تخفيفا ، وللرعاية على الفاصلة. ونظائره كثيرة.
(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧))
اعتراض ثان بين الجملتين المتعاطفتين قصد منها تأكيد الوعيد الذي تضمنته جملة : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ) [العنكبوت : ٥٢] إلى آخرها ، والوعد الذي تضمنته جملة : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) [العنكبوت : ٥٨] أي الموت مدرك جميع الأنفس ثم يرجعون إلى الله. وقصد منها أيضا تهوين ما يلاقيه المؤمنون من الأذى في الله ولو بلغ إلى الموت بالنسبة لما يترقبهم من فضل الله وثوابه الخالد ، وفيه إيذان بأنهم يترقبهم جهاد في سبيل الله.
وقرأ الجمهور (تُرْجَعُونَ) بتاء الخطاب على أنه خطاب للمؤمنين في قوله : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) [العنكبوت : ٥٦]. وقرأه أبو بكر عن عاصم بياء الغيبة تبعا لقوله: (يَغْشاهُمُ الْعَذابُ) [العنكبوت : ٥٥].
[٥٨ ـ ٥٩] (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩))