والباطل : هو الشرك كما تقدم عند قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ) في هذه السورة العنكبوت [٥٢]. و (نعمة الله) المراد بها الجنس الذي منه إنجاؤهم من الغرق وما عداه من النعم المحسوسة المعروفة ، ومن النعم الخفية التي لو تأملوا لأدركوا عظمها ، ومنها نعمة الرسالة المحمدية. والمضارع في المواضع الثلاثة دال على تجدّد الفعل.
(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨))
لما أوفاهم ما يستأهلونه من تشنيع أحوالهم وسوء انتظام شئونهم جاء في عقبه بتذييل يجمعها في أنها افتراء على الله وتكذيب بالحق ، ثم جزاهم الجزاء الأوفى اللائق بحالهم وهو أن النار مثواهم.
وافتتح تشخيص حالهم بالاستفهام عن وجود فريق هم أظلم من هؤلاء الذين افتروا على الله وكذبوا بالحق توجيها لأذهان السامعين نحو البحث هل يجدون أظلم منهم حتى إذا أجادوا التأمل واستقروا مظانّ الظلمة واستعرضوا أصنافهم تيقنوا أن ليس ثمة ظلم أشدّ من ظلم هؤلاء.
وإنما كانوا أشد الظالمين ظلما لأن الظلم الاعتداء على أحد بمنعه من حقه وأشدّ من المنع أن يمنعه مستحقّه ويعطيه من لا يستحقه ، وأن يلصق بأحد ما هو بريء منه. ثم إن الاستحقاق وعدمه قد يثبتان بحكم العوائد وقد يثبتان بأحكام الشرائع وقد يثبتان بقضايا العقول السليمة وهو أعلى مراتب الثبوت ومدار أمور أهل الشرك على الافتراء على الله بأن سلبوا عنه ما هو متصف به من صفات الإلهية الثابتة بدلالة العقول ، وأثبتوا له ما هو منزه عنه من الصفات والأفعال بدلالة العقول ، وعلى تكذيب الرسول صلىاللهعليهوسلم ونكران دلالة المعجزة التي يقتضيها العقل ، وعلى رمي الرسول عليه الصلاة والسلام بما هو بريء منه بشهادة العقل والعادة التي عرفوها منه بهتانا وكذبا ؛ فكانوا بمجموع الأمرين وضعوا أشياء في مواضع لا يمكن أن تكون مواضعها فكانوا أظلم الناس لأن عدم الإمكان أقوى من عدم الحصول.
وتقييد الافتراء بالحال الموكّدة في قوله (كَذِباً) لزيادة تفظيع الافتراء لأن اسم الكذب مشتهر القبح في عرف الناس ، وإنما اختير الافتراء للدلالة على أنهم يتعمدون الاختلاق تعمدا لا تخالطه شبهة. وتقييد تكذيبهم بالحق بقوله (لَمَّا جاءَهُ) لإدماج ذم المكذبين بنكران نعمة إرسال الحق إليهم التي لم يقدروها قدرها ، وكان شأن العقلاء أن