يتطلبوا الحق ويرحلوا في طلبه ، وهؤلاء جاءهم الحق بين أيديهم فكذبوا به. وأيضا فإن (لَمَّا) التوقيتية تؤذن بأن تكذيبهم حصل بدارا عند مجيء الحق ، أي دون أن يتركوا لأنفسهم مهلة النظر.
وجملة (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) بيان لجملة (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) وتقرير لها لأن في جملة (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ) إلى آخرها إيذانا إجماليا بجزاء فظيع يترقبهم ، فكان بيانه بمضمون جملة (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) وهو بألفاظه ونظمه يفيد تمكنهم من عذاب جهنم إذ جعلت مثواهم. فالمثوى : مكان الثواء. والثواء : الإقامة الطويلة والسكنى. وعلق ذلك بعنوان الكافرين للتنبيه على استحقاقهم ذلك لأجل كفرهم.
والتعريف في (الكافرين) تعريف العهد ، أي لهؤلاء الكافرين وهم الذين ذكروا من قبل بأنهم افتروا على الله كذبا وكذبوا بالحق ، فكان مقتضى الظاهر الإتيان بضميرهم فعدل عنه إلى الاسم الظاهر لإحضارهم بوصف الكفر.
والهمزة في (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً) للاستفهام التقريري ، وأصلها : إما الإنكار بتنزيل المقرّ منزلة المنكر ليكون إقراره أشد لزوما له ، وإما أن تكون للاستفهام فلما دخلت على النفي أفادت التقرير لأن إنكار النفي إثبات للمنفي وهو إثبات مستعمل في التقرير على وجه الكناية. وهذا التقرير بالهمزة هو غالب استعمال الاستفهام مع النفي ، ومنه قول جرير :
ألستم خير من ركب المطايا |
|
وأندى العالمين بطون راح |
فإنه لا يحتمل غير معنى التقرير بشهادة الذوق ولياقة مقام مدح الخليفة. وهذا تقرير لمن يسمع هذا الكلام. جعل كون جهنم مثواهم أمرا مسلما معروفا بحيث يقرّ به كل من يسأل عنه كناية عن تحقق المغبة على طريقة إيماء الكناية.
(وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩))
ختم توبيخ المشركين وذمّهم بالتنويه بالمؤمنين إظهارا لمزيد العناية بهم فلا يخلو مقام ذم أعدائهم عن الثناء عليهم ، لأن ذلك يزيد الأعداء غيظا وتحقيرا. و (الَّذِينَ جاهَدُوا) في الله هم المؤمنون الأولون فالموصول بمنزلة المعرّف بلام العهد. وهذا الجهاد هو الصبر على الفتن والأذى ومدافعة كيد العدو وهو المتقدم في قوله أول السورة