(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤))
هذا اعتراض بين أجزاء القصة المرتبة على حسب ظهورها في الخارج. وهذا الاعتراض نشأ عن جملة (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) [القصص : ١٣] فإن وعد الله لها قد حكي في قوله تعالى (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [القصص : ٧]. فلما انتهى إلى حكاية رده إلى أمه بقوله (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) [القصص : ١٣] إلى آخره كمّل ما فيه وفاء وعد الله إياها بهذا الاستطراد في قوله (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) وإنما أوتي الحكم أعني النبوءة بعد خروجه من أرض مدين كما سيجيء في قوله تعالى (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ) [القصص : ٢٩]. وتقدم نظير هذه الآية في سورة يوسف ، إلا قوله (وَاسْتَوى) فقيل : إن (اسْتَوى) بمعنى بلغ أشده ، فيكون تأكيدا ، والحق أن الأشد كمال القوة لأن أصله جمع شدة بكسر الشين بوزن نعمة وأنعم وهي اسم هيئة بمعنى القوة ثم عومل معاملة المفرد. وأن الاستواء : كمال البنية كقوله تعالى في وصف الزرع (فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) [الفتح : ٢٩] ، ولهذا أريد لموسى الوصف بالاستواء ولم يوصف يوسف إلا ببلوغ الأشد خاصة لأن موسى كان رجلا طوالا كما في الحديث «كأنه من رجال شنوءة» فكان كامل الأعضاء ولذلك كان وكزه القبطي قاضيا على الموكوز. والحكم : الحكمة ، والعلم : المعرفة بالله.
(وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥))
طويت أخبار كثيرة تنبئ عنها القصة وذلك أن موسى يفع وشب في قصر فرعون فكان معدودا من أهل بيت فرعون ، وقيل : كان يدعى موسى ابن فرعون.
وجملة (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ) عطف على جملة (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) [القصص : ٧] عطف جزء القصة على جزء آخر منها ، وقد علم موسى أنه من بني إسرائيل ، لعله بأن أمه كانت تتصل به في قصر فرعون وكانت تقص عليه نبأه كله. والمدينة هي (منفيس) قاعدة مصر الشمالية.
ويتعلق (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ) ب (دَخَلَ). و (عَلى) للاستعلاء المجازي كما في قوله تعالى (عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥] ، أي متمكنا من حين غفلة.