(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣))
المقصود من الآيات السابقة ابتداء من قوله (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ) [القصص : ٣٠] إلى هنا الاعتبار بعاقبة المكذبين القائلين (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) [القصص : ٣٦] ليقاس النظير على النظير ، فقد كان المشركون يقولون مثل ذلك يريدون إفحام الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه لو كان الله أرسله حقا لكان أرسل إلى الأجيال من قبله ، ولما كان الله يترك الأجيال التي قبلهم بدون رسالة رسول ثم يرسل إلى الجيل الأخير ، فكان قوله (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) إتماما لتنظير رسالة محمدصلىاللهعليهوسلم برسالة موسى عليهالسلام في أنها جاءت بعد فترة طويلة لا رسالة فيها ، مع الإشارة إلى أن سبق إرسال الرسل إلى الأمم شيء واقع بشهادة التواتر ، وأنه قد ترتب على تكذيب الأمم رسلهم إهلاك القرون الأولى فلم يكن ذلك موجبا لاستمرار إرسال الرسل متعاقبين بل كانوا يجيئون في أزمنة متفرقة ؛ فإذا كان المشركون يحاولون بقولهم (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) [القصص : ٣٦] إبطال رسالة محمد صلىاللهعليهوسلم بعلة تأخر زمانها سفسطة ووهما فإن دليلهم مقدوح فيه بقادح القلب بأن الرسل قد جاءوا إلى الأمم من قبل ثم جاء موسى بعد فترة من الرسل. وقد كان المشركون لما بهرهم أمر الإسلام لاذوا باليهود يسترشدونهم في طرق المجادلة الدينية فكان المشركون يخلطون ما يلقنهم اليهود من المغالطات بما استقر في نفوسهم من تضليل أئمة الشرك فيأتون بكلام يلعن بعضه بعضا ، فمرة يقولون (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) [القصص : ٣٦] وهو من مجادلات الأميين ، ومرة يقولون (لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) [القصص : ٤٨] وهو من تلقين اليهود ، ومرة يقولون (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩١] ، فكان القرآن يدمغ باطلهم بحجة الحق بإلزامهم تناقض مقالاتهم. وهذه الآية من ذلك فهي حجة بتنظير رسالة محمد برسالة موسى عليهما الصلاة والسلام والمقصود منها ذكر القرون الأولى.
وأما ذكر إهلاكهم فهو إدماج للنذارة في ضمن الاستدلال. وجملة (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) تخلص من قصة بعثة موسى عليهالسلام إلى تأييد بعثة محمد صلىاللهعليهوسلم. والمقصود قوله (من بعد القرون الأولى).
ثم إن القرآن أعرض عن بيان حكمة الفتر التي تسبق إرسال الرسل ، واقتصر على بيان الحكمة في الإرسال عقبها لأنه المهم في مقام نقض حجة المبطلين للرسالة أو اكتفاء