إلى آبائهم الأولين ، كما علمت مما تقدم آنفا ، فذكرهم بأن الله أرسل موسى كذلك بعد فترة عظيمة ، وأن الذين أرسل إليهم موسى أثاروا مثل هذه الشبهة فقالوا (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) [القصص : ٣٦] فكما كانت رسالة موسى عليهالسلام بعد فترة من الرسل كذلك كانت رسالة محمد صلىاللهعليهوسلم. فالمعنى : فكان المشركون حقيقين بأن ينظروا رسالة محمد برسالة موسى ولكن الله أنشأ قرونا أي أمما بين زمن موسى وزمنهم فتطاول الزمن فنسي المشركون رسالة موسى فقالوا (ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) [ص : ٧]. وحذف بقية الدليل وهو تقدير : فنسوا ، للإيجاز لظهوره من قوله (فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) كما قال تعالى عن اليهود حين صاروا يحرفون الكلم عن مواضعه (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) [المائدة : ١٣] ، وقال عن النصارى (أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) [المائدة: ١٤] وقال لأمة محمد صلىاللهعليهوسلم ولا تكونوا (كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) [الحديد : ١٦] ، فضمير الجمع في قوله (عَلَيْهِمُ) عائد إلى المشركين لا إلى القرون.
فتبين أن الاستدراك متصل بقوله (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) [القصص : ٤٣] وأن ما بين ذلك وبين هذا استطراد. وهذا أحسن في بيان اتصال الاستدراك مما احتفل به صاحب «الكشاف». ولله دره في استشعاره ، وشكر الله مبلغ جهده. وهو بهذا مخالف لموقع الاستدراكين الآتيين بعده من قوله (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) وقوله (وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) [القصص : ٤٦]. و (الْعُمُرُ) الأمد كقوله (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ) [يونس : ١٦].
(وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ).
هذا تكرير للدليل بمثل آخر مثل ما في قوله (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) [القصص : ٤٤] أي ما كنت مع موسى في وقت التكليم ولا كنت في أهل مدين إذ جاءهم موسى وحدث بينه وبين شعيب ما قصصنا عليك.
والثواء : الإقامة.
وضمير (عَلَيْهِمُ) عائد إلى المشركين من أهل مكة لا إلى أهل مدين لأن النبيصلىاللهعليهوسلم يتلو آيات الله على المشركين.
والمراد بالآيات ، الآيات المتضمنة قصة موسى في أهل مدين من قوله (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ) إلى قوله (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ) [القصص : ٢٢ ـ ٢٩]. وبمثل