وتقديم المجرور في قوله (لِلَّهِ الْأَمْرُ) لإبطال تطاول المشركين الذين بهجهم غلب الفرس على الروم لأنهم عبدة أصنام مثلهم لاستلزامه الاعتقاد بأن ذلك الغلب من نصر الأصنام عبادها ، فبين لهم بطلان ذلك وأن التصرف لله وحده في الحالين للحكمة التي بيناها آنفا كما دل عليه التذييل بقوله (يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ).
فيه أدب عظيم للمسلمين لكي لا يعلّلوا الحوادث بغير أسبابها وينتحلوا لها عللا توافق الأهواء كما كانت تفعله الدجاجلة من الكهان وأضرابهم. وهذا المعنى كان النبي صلىاللهعليهوسلم يعلنه في خطبه فقد كسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن النبي صلىاللهعليهوسلم فقال الناس : كسفت لموت إبراهيم فخطب النبي صلىاللهعليهوسلم فقال في خطبته : «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته». وكان من صناعة الدجل أن يتلقن أصحاب الدجل الحوادث المقارنة لبعض الأحوال فيزعموا أنها كانت لذلك مع أنها تنفع أقواما وتضر بآخرين ، ولهذا كان التأييد بنصر الروم في هذه الآية موعودا به من قبل ليعلم الناس كلهم أنه متحدّى به قبل وقوعه لا مدّعى به بعد وقوعه ، ولهذا قال تعالى بعد الوعود : (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ).
(وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).
عطف على جملة (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ) إلخ أي : ويوم إذ يغلبون يفرح المؤمنون بنصر الله أي بنصر الله إياهم على الذين كانوا غلبوهم من قبل ، وكان غلبهم السابق أيضا بنصر الله إياهم على الروم لحكمة اقتضت هذا التعاقب وهي تهيئة أسباب انتصار المسلمين على الفريقين إذا حاربوهم بعد ذلك لنشر دين الله في بلاديهم ، وقد أومأ إلى هذا قوله (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ).
والجملة المضافة إلى إذ في قوله (وَيَوْمَئِذٍ) محذوفة عوض عنها التنوين. والتقدير : ويوم إذ يغلبون يفرح المؤمنون ، فيوم منصوب على الظرفية وعامله (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ). وأضيف النصر إلى اسم الجلالة للتنويه بذلك النصر وأنه عناية لأجل المسلمين.
وجملة (يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) تذييل لأن النصر المذكور فيها عامّ بعموم مفعوله وهو (مَنْ يَشاءُ) فكل منصور داخل في هذا العموم ، أي من يشاء نصره لحكم يعلمها ، فالمشيئة هي الإرادة ، أي : ينصر من يريد نصره ، وإرادته تعالى لا يسأل عنها ، ولذلك