شأن العالم أن يتصرف في المعلومات كما يشاء لأن العجز عن إيجاد بعض ما تتوجه إليه الإرادة إنما يتأتى من خفاء السبب الموصل إلى إيجاده ، وإذ قد كان المشركون أو عقلاؤهم يسلمون أن الله يعلم كل شيء جعل تسليمهم ذلك وسيلة إلى إقناعهم بقدرته تعالى على كل شيء ، وإما واقعة موقع الاستئناف البياني لما ينشأ عن الإخبار بأن بعثهم كنفس من تعجب فريق ممن أسروا إنكار البعث في نفوسهم الذين أومأ إليهم قوله آنفا : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) [لقمان : ٢٣] ، ولأجل هذا لم يقل : إن الله عليم قدير.
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٩))
استدلال على ما تضمنته الآية قبلها من كون الخلق الثاني وهو البعث في متناول قدرة الله تعالى بأنه قادر على تغيير أحوال ما هو أعظم حالا من الإنسان ، وذلك بتغيير أحوال الأرض وأفقها بين ليل ونهار في كل يوم وليلة تغييرا يشبه طروّ الموت على الحياة في دخول الليل في النهار ، وطروّ الحياة على الموت في دخول النهار على الليل ، وبأنه قادر على أعظم من ذلك بما سخره من سير الشمس والقمر.
فهذا الاستدلال على إمكان البعث بقياس التمثيل بإمكان ما هو أعظم منه من شئون المخلوقات بعد أن استدل عليه بالقياس الكلي الذي اقتضاه قوله (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [لقمان : ٢٨] من إحاطة العلم الإلهي بالمعلومات المقتضي إحاطة قدرته بالممكنات لأنها جزئيات المعلومات وفرع عنها. والخطاب لغير معين ، والمقصود به المشركون بقرينة (وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ). والرؤية علمية ، والاستفهام لإنكار عدم الرؤية بتنزيل العالمين منزلة غير عالمين لعدم انتفاعهم بعلمهم.
والإيلاج : الإدخال. وهو هنا تمثيل لتعاقب الظلمة والضياء بولوج أحدهما في الآخر كقوله (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) [يس : ٣٧]. وتقدم الكلام على نظيره في قوله (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) أول سورة آل عمران [٢٧] ، وقوله (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) الآية في سورة الحج [٦١] مع اختلاف الغرضين.
والابتداء بالليل لأن أمره أعجب كيف تغشى ظلمته تلك الأنوار النهارية ، والجمع بين إيلاج الليل وإيلاج النهار لتشخيص تمام القدرة بحيث لا تلازم عملا متماثلا. والكلام على تسخير الشمس والقمر مضى في سورة الأعراف.