والمعنى : من عنده ووحيه ، كما تقول : جاءني كتاب من فلان. ووقعت جملة (لا رَيْبَ فِيهِ) بأسلوب المعلوم المقرّر فلم تجعل خبرا ثانيا عن المبتدأ لزيادة التشويق إلى الخبر ليقرر كونه من رب العالمين.
ومعنى (لا رَيْبَ فِيهِ) أنه ليس أهلا لأن يرتاب أحد في تنزيله من ربّ العالمين لما حفّ بتنزيله من الدلائل القاطعة بأنه ليس من كلام البشر بسبب إعجاز أقصر سورة منه فضلا عن مجموعه ، وما عضده من حال المرسل به من شهرة الصدق والاستقامة ، ومجيء مثله من مثله مع ما هو معلوم من وصف الأمية. فمعنى نفي أن يكون الريب مظروفا في هذا الكتاب أنه لا يشتمل على ما يثير الريب ، فالذين ارتابوا بل كذبوا أن يكون من عند الله فهم لا يعدون أن يكونوا متعنّتين على علم ، أو جهّالا يقولون قبل أن يتأملوا وينظروا ؛ والأولون زعماؤهم والأخيرون دهماؤهم ، وقد تقدم ذلك في أول سورة البقرة.
واستحضار الجلالة بطريق الإضافة بوصف (رَبِّ الْعالَمِينَ) دون الاسم العلم وغيره من طرق التعريف لما فيه من الإيماء إلى عموم الشريعة وكون كتابها منزّلا للناس كلهم بخلاف ما سبق من الكتب الإلهية ، كما قال تعالى : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) [المائدة : ٤٨]. وفيه إيماء إلى أن من جملة دواعي تكذيبهم به أنه كيف خص الله برسالته بشرا منهم حسدا من عند أنفسهم لأن ربوبية الله للعالمين تنبئ عن أنه لا يسأل عما يفعل وأنه أعلم حيث يجعل رسالاته.
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣))
جاءت (أَمْ) للإضراب عن الكلام السابق إضراب انتقال ، وهي (أَمْ) المنقطعة التي بمعنى بل التي للإضراب. وحيثما وقعت (أَمْ) فهي مؤذنة باستفهام بالهمزة بعدها الملتزم حذفها بعد (أَمْ). والاستفهام المقدر بعدها هنا تعجيبي لأنهم قالوا هذا القول الشنيع وعلّمه الناس عنهم فلا جرم كانوا أحقّاء بالتعجيب من حالهم ومقالهم لأنهم أبدوا به أمرا غريبا يقضى منه العجب لدى العقلاء ذوي الأحلام الراجحة والنفوس المنصفة ، إذ دلائل انتفاء الريب عن كونه من رب العالمين واضحة بله الجزم بأنه مفترى على الله تعالى.
وصيغ الخبر عن قولهم العجيب بصيغة المضارع لاستحضار حالة ذلك القول تحقيقا