الغيب وذمّا لجهلهم به بأنه أوقعهم في ورطة إهمال رجاء الآخرة وإهمال الاستعداد لما يقتضيه ذلك الرجاء ، فذلك موقع قوله (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) ؛ فجملة (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) بدل من جملة (لا يَعْلَمُونَ) بدل اشتمال باعتبار ما بعد الجملة من قوله (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) لأن علمهم يشتمل على معنى نفي علم بمغيبات الآخرة وإن كانوا يعلمون ظواهر الحياة الدنيا.
وجملة (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) يجوز أن تجعلها عطفا على جملة (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) فحصل الإخبار عنهم بعلم أشياء وعدم العلم بأشياء ، ولك أن تجعل جملة (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ) إلخ في موقع الحال ، والواو واو الحال.
وعبر عن جهلهم الآخرة بالغفلة كناية عن نهوض دلائل وجود الحياة الآخرة لو نظروا في الدلائل المقتضية وجود حياة آخرة فكان جهلهم بذلك شبيها بالغفلة لأنه بحيث ينكشف لو اهتموا بالنظر فاستعير له (غافِلُونَ) استعارة تبعية.
(وَهُمْ) الأولى في موضع مبتدأ و (هُمْ) الثانية ضمير فصل. والجملة الاسمية دالة على تمكنهم من الغفلة عن الآخرة وثباتهم في تلك الغفلة ، وضمير الفصل لإفادة الاختصاص بهم ، أي هم الغافلون عن الآخرة دون المؤمنين.
ومن البديع الجمع بين (لا يَعْلَمُونَ) و (يَعْلَمُونَ). وفيه الطباق من حيث ما دلّ عليه اللفظان لا من جهة متعلقهما. وقريب منه قوله تعالى (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٠٢].
(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨))
عطف على جملة (وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) [الروم : ٧] لأنهم نفوا الحياة الآخرة فسيق إليهم هذا الدليل على أنها من مقتضى الحكمة.
فضمير (يَتَفَكَّرُوا) عائد إلى الغافلين عن الآخرة وفي مقدمتهم مشركو مكة. والاستفهام تعجيبي من غفلتهم وعدم تفكرهم. والتقدير : هم غافلون وعجيب عدم تفكرهم. ومناسبة هذا الانتقال أن لإحالتهم رجوع الدّالة إلى الروم بعد انكسارهم سببين :
أحدهما : اعتيادهم قصر أفكارهم على الجولان في المألوفات دون دائرة الممكنات ، وذلك من أسباب إنكارهم البعث وهو أعظم ما أنكروه لهذا السبب.