والمهين : الشيء الممتهن الذي لا يعبأ به. والغرض من إجراء هذا الوصف عليه الاعتبار بنظام التكوين إذ جعل الله تكوين هذا الجنس المكتمل التركيب العجيب الآثار من نوع ماء مهراق لا يعبأ به ولا يصان.
والتسوية : التقويم ، قال تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين : ٤]. والضمير المنصوب في (سَوَّاهُ) عائد إلى (نَسْلَهُ) لأنه أقرب مذكور ولأنه ظاهر العطف ب (ثُمَ) وإن كان آدم قد سوّي ونفخ فيه من الروح ، قال تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) [ص : ٧٢]. وذكر التسوية ونفخ الروح في جانب النسل يؤذن بأن أصله كذلك ، فالكلام إيجاز.
وإضافة الروح إلى ضمير الجلالة للتنويه بذلك السر العجيب الذي لا يعلم تكوينه إلا هو تعالى ، فالإضافة تفيد أنه من أشد المخلوقات اختصاصا بالله تعالى وإلا فالمخلوقات كلها لله.
والنفخ : تمثيل لسريان اللطيفة الروحانية في الكثيفة الجسدية مع سرعة الإيداع ، وقد تقدم في قوله تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) في سورة الحجر [٢٩].
والانتقال من الغيبة إلى الخطاب في قوله : (وَجَعَلَ لَكُمُ) التفات لأن المخاطبين من أفراد الناس وجعل السمع والأبصار والأفئدة للناس كلهم غير خاص بالمخاطبين فلما انتهض الاستدلال على عظيم القدرة وإتقان المراد من المصنوعات المتحدث عنهم بطريق الغيبة الشامل للمخاطبين وغيرهم ناسب أن يلتفت إلى الحاضرين بنقل الكلام إلى الخطاب لأنه آثر بالامتنان وأسعد بما يرد بعده من التعريض بالتوبيخ في قوله (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ). والامتنان بقوى الحواس وقوى العقل أقوى من الامتنان بالخلق وتسويته لأن الانتفاع بالحواس والإدراك متكرر متجدد فهو محسوس بخلاف التكوين والتقويم فهو محتاج إلى النظر في آثاره.
والعدول عن أن يقال : وجعلكم سامعين مبصرين عالمين إلى (جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) لأن ذلك أعرق في الفصاحة ، ولما تؤذن به اللام من زيادة المنة في هذا الجعل إذ كان جعلا لفائدتهم ولأجلهم ، ولما في تعليق الأجناس من السمع والأبصار والأفئدة بفعل الجعل من الروعة والجلال في تمكن التصرف ، ولأن كلمة (الْأَفْئِدَةَ) أجمع من كلمة عاقلين لأن الفؤاد يشمل الحواس الباطنة كلها والعقل بعض منها.