وثانيهما : تمردهم على تكذيب الرسول صلىاللهعليهوسلم بعد أن شاهدوا معجزته فانتقل الكلام إلى نقض آرائهم في هذين السببين.
والتفكر : إعمال الفكر ، أي الخاطر العقلي للاستفادة منه ، وهو التأمل في الدلالة العقلية. وقد تقدم عند قوله تعالى (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ) في سورة الأنعام [٥٠].
والأنفس : جمع نفس. والنفس يطلق على الذات كلها ، ويطلق على باطن الإنسان ، ومنه قوله تعالى حكاية عن عيسى عليهالسلام : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) [المائدة : ١١٦] كقول عمر يوم السقيفة : «وكنت زوّقت في نفسي مقالة» أي في عقلي وباطني.
وحرف (فِي) من قوله (فِي أَنْفُسِهِمْ) يجوز أن يكون للظرفية الحقيقية الاعتبارية فيكون ظرفا لمصدر (يَتَفَكَّرُوا) ، أي تفكرا مستقرا في أنفسهم. وموقع هذا الظرف مما قبله موقع معنى الصفة للتفكر. وإذ قد كان التفكر إنما يكون في النفس فذكر (فِي أَنْفُسِهِمْ) لتقوية تصوير التفكر وهو كالصفة الكاشفة لتقرر معنى التفكر عند السامع ، كقوله (وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) [العنكبوت : ٤٨] وقوله (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] ، وتكون جملة (ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) إلخ على هذا مبينة لجملة (يَتَفَكَّرُوا) إذ مدلولها هو ما يتفكرون فيه كقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ) [الأعراف : ١٨٤].
ويجوز أن يكون (فِي) للظرفية المجازية متعلقة بفعل (يَتَفَكَّرُوا) تعلق المفعول بالفعل ، أي يتدبروا ويتأملوا في أنفسهم. والمراد بالأنفس الذوات فهو في معنى قوله تعالى (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢١] ؛ فإن حق النظر المؤدّي إلى معرفة الوحدانية وتحقق البعث أن يبدأ بالنظر في أحوال خلقة الإنسان قال تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون : ١١٥] وهذا كقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف : ١٨٥] أي في دلالة ملكوت السماوات والأرض ، وتكون جملة (ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) إلخ على هذا التفسير بدل اشتمال من قوله (أَنْفُسِهِمْ) إذ الكلام على حذف مضاف ، تقديره : في دلالة أنفسهم ، فإن دلالة (أَنْفُسِهِمْ) تشتمل على دلالة خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق لأن (أَنْفُسِهِمْ) مشمولة لما في الأرض من الخلق ودالة على ما في الأرض ، وكذلك يطلق ما في الأرض دال على خلق أنفسهم.
وعلى الاحتمالين وقع تعليق فعل (يَتَفَكَّرُوا) عن العمل في مفعولين لوجود النفي