(أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦))
عطف على جملة (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) [السجدة : ٢٢] ، ولما كان ذلك التذكير متصلا كقوله (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) [السجدة : ١٠] كان الهدي ، أي العلم المستفهم عنه بهذا الاستفهام شاملا للهدي إلى دليل البعث وإلى دليل العقاب على الإعراض عن التذكير فأفاد قوله (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ) معنيين : أحدهما : إهلاك أمم كانوا قبلهم فجاء هؤلاء المشركون بعدهم ، وذلك تمثيل للبعث وتقريب لإمكانه. وثانيهما : إهلاك أمم كذبوا رسلهم ففيهم عبرة لهم أن يصيبهم مثل ما أصابهم.
والاستفهام إنكاري ، أي هم لم يهتدوا بدلائل النظر والاستدلال التي جاءهم بها القرآن فأعرضوا عنها ولا اتعظوا بمصارع الأمم الذين كذبوا أنبياءهم وفي مهلكهم آيات تزجر أمثالهم عن السلوك فيما سلكوه. فضمير (لَهُمْ) عائد إلى المجرمين أو إلى من ذكّر بآيات ربه. و (يَهْدِ) من الهداية وهي الدلالة والإرشاد ، يقال : هداه إلى كذا.
وضمن فعل (يَهْدِ) معنى يبيّن ، فعدي باللام فأفاد هداية واضحة بينة. وقد تقدم نظيره في قوله تعالى (أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ) في سورة [الأعراف : ١٠٠]. واختير فعل الهداية في هذه الآية لإرادة الدلالة الجامعة للمشاهدة ولسماع أخبار تلك الأمم تمهيدا لقوله في آخرها (أَفَلا يَسْمَعُونَ) ، ولأن كثرة ذلك المستفادة من (كَمْ) الخبرية إنما تحصل بترتيب الاستدلال في تواتر الأخبار ولا تحصل دفعة كما تحصل دلالة المشاهدات.
وفاعل (يَهْدِ) ما دلت عليه (كَمْ) الخبرية من معنى الكثرة. ولا يجوز عند الجمهور جعل (كَمْ) فاعل (يَهْدِ) لأن (كَمْ) الخبرية اسم له الصدارة في الاستعمال إذ أصله استفهام فتوسع فيه.
ويجوز جعل (كَمْ) فاعلا عند من لم يشترطوا أن تكون (كَمْ) الخبرية في صدر الكلام. وجوز في «الكشاف» أن يكون الفاعل جملة (كَمْ أَهْلَكْنا) على معنى الحكاية لهذا القول ، كما يقال : تعصم (لا إله إلا الله) الدماء والأموال ، أي هذه الكلمة أي النطق بها لتقلد الإسلام. ويجوز أن يكون الفاعل ضمير الجلالة دالا عليه المقام ، أي ألم يهد