أصحاب ولاية الإيمان والهجرة بتلك الولاية ، أي : الولاية التي بين الأنصار والمهاجرين. وأريد بالمؤمنين خصوص الأنصار بقرينة مقابلته بعطف (وَالْمُهاجِرِينَ) على معنى أصحاب الإيمان الكامل تنويها بإيمان الأنصار لأنهم سبقوا بإيمانهم قبل كثير من المهاجرين الذين آمنوا بعدهم فإن الأنصار آمنوا دفعة واحدة لمّا أبلغهم نقباؤهم دعوة محمد صلىاللهعليهوسلم إياهم بعد بيعة العقبة الثانية. قال تعالى : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [الحشر : ٩] أي : من قبل كثير من فقراء المهاجرين عدا الذين سبق إيمانهم. فالمعنى : كل ذي رحم أولى بإرث قريبه من أن يرثه أنصاري إن كان الميت مهاجرا ، أو أن يرثه مهاجر إن كان الميت من الأنصار ، فيكون هذا ناسخا للتوارث بالهجرة الذي شرع بآية الأنفال [٧٢] : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) ، فتوارث المسلمون بالهجرة فكان الأعرابي المسلم لا يرث قريبه المهاجر ، ثم نسخ بآية هذه السورة. ويجوز أن يكون قوله (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ظرفا مستقرّا في موضع الصفة ، أي : وأولو الأرحام الكائنون من المؤمنين والمهاجرين ، بعضهم أولى ببعض ، أي : لا يرث ذو الرحم ذا رحمه إلا إذا كانا مؤمنين ومهاجرين ، فتكون الآية ناسخة للتوارث بالحلف والمؤاخاة الذي شرع عند قدوم المهاجرين إلى المدينة ، فلما نزلت هذه الآية رجعوا إلى مواريثهم فبينت هذه الآية أن القرابة أولى من الحلف والمواخاة ، وأيّا ما كان فإن آيات المواريث نسخت هذا كله. ويجوز أن تكون (مِنْ) بيانية ، أي : وأولو الأرحام المؤمنون والمهاجرون ، أي : فلا يرث أولو الأرحام الكافرون ولا يرث من لم يهاجر من المؤمنين لقوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) [الأنفال : ٧٣] ثم قال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) [الأنفال : ٧٢].
والاستثناء بقوله (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) منقطع ، و (إِلَّا) بمعنى (لكن) لأن ما بعد (إِلَّا) ليس من جنس ما قبلها فإن الأولوية التي أثبتت لأولي الأرحام أولوية خاصة وهي أولوية الميراث بدلالة السياق دون أولوية حسن المعاشرة وبذل المعروف. وهذا استدراك على ما قد يتوهم من قطع الانتفاع بأموال الأولياء عن أصحاب الولاية بالإخاء والحلف فبين أن الذي أبطل ونسخ هو انتفاع الإرث وبقي حكم المواساة وإسداء المعروف بمثل الإنفاق والإهداء والإيصاء.
وجملة (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) تذييل لهذه الأحكام وخاتمة لها مؤذنة بانتهاء الغرض من الأحكام التي شرعت من قوله (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) [الأحزاب : ٥] إلى هنا ،