والعاقبة : آخر الأمر من الخير والشرّ ، بخلاف العقبى فهي للخير خاصة إلا في مقام المشاكلة ، وتقدم ذكر العاقبة في قوله (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) في الأعراف [١٢٨]. وقد جمع قوله (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) وعيدا على تكذيبهم النبي صلىاللهعليهوسلم وتجهيلا لإحالتهم الممكن ، حيث أيقنوا بأن الفرس لا يغلبون بعد انتصارهم. فهذه آثار أمم عظيمة كانت سائدة على الأرض فزال ملكهم وخلت بلادهم من سبب تغلب أمم أخرى عليهم.
والمراد بالذين من قبلهم : عاد وثمود وقوم لوط وأمثالهم الذين شاهد العرب آثارهم. والمعنى : أنهم كانوا من قبلهم في مثل حالتهم من الشرك وتكذيب الرسل المرسلين إليهم ، كما دل عليه قوله عقبه (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) الآية.
(كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).
كل أولئك كانوا أشد قوة من قريش وأكثر تعميرا في الأرض ، وكلهم جاءتهم رسل ، وكلهم كانت عاقبتهم الاستئصال ، كل هذه ما تقرّ به قريش.
وجملة (كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) بيان لجملة (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).
والشدة : صلابة جسم ، وتستعار بكثرة لقوة صفة من الأوصاف في شيء تشبيها لكمال الوصف وتمامه بالصلابة في عسر التحول. وتقدم في قوله : (وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) في سورة النمل [٣٣].
والقوة : حالة بها يقاوم صاحبها ما يوجب انخرامه ، فمن ذلك قوة البدن ، وقوة الخشب ، وتستعار القوة لما به تدفع العادية وتستقيم الحالة ؛ فهي مجموع صفات يكون بها بقاء الشيء على أكمل أحواله كما في قوله : (نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ) [النمل : ٣٣] فقوة الأمة مجموع ما به تدفع العوادي عن كيانها وتستبقي صلاح أحوالها من عدد حربيّة وأموال وأبناء وأزواج. وحالة مشركي قريش لا تداني أحوال تلك الأمم في القوة ، وناهيك بعاد فقد كانوا مضرب الأمثال في القوة في سائر أمورهم ، والعرب تصف الشيء العظيم في جنسه بأنه عاديّ نسبة إلى عاد.
وعطف (أَثارُوا) على (كانُوا) فهو فعل مشتق من الإثارة بكسر الهمزة ، وهي تحريك أجزاء الشيء ، فالإثارة : رفع الشيء المستقر وقلبه بعد استقراره ، قال تعالى : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) [الروم : ٤٨] أي : تسوقه وتدفعه من مكان إلى مكان.