وعند ما تم حفر الخندق أقبلت جنود المشركين وتسمّوا بالأحزاب لأنهم عدة قبائل تحزبوا ، أي : صاروا حزبا واحدا ، وانضمّ إليهم بنو قريظة فكان ورود قريش من أسفل الوادي من جهة المغرب ، وورود غطفان وهوازن من أعلى الوادي من جهة المشرق ، فنزل جيش قريش بمجتمع الأسيال من رومة بين الجرف وزغابة ـ بزاي معجمة مضمومة وغين معجمة وبعضهم يرويه بالعين المهملة ـ وبعضهم يقول : والغابة ، والتحقيق هو الأول كما في «الروض الأنف» ، ونزل جيش غطفان وهوازن بذنب نقمى إلى جانب أحد ، وكان جيش المسلمين ثلاثة آلاف ؛ وخرج المسلمون إلى خارج المدينة فعسكروا تحت جبل سلع وجعلوا ظهورهم إلى الجبل والخندق بينهم وبين العدوّ ، وجعل المسلمون نساءهم وذراريهم في آطام المدينة. وأمّر النبي صلىاللهعليهوسلم على المدينة عبد الله بن أمّ مكتوم ، ودام الحال كذلك بضعا وعشرين ليلة لم تكن بينهم فيها حرب إلا مصارعة بين ثلاثة فرسان اقتحموا الخندق من جهة ضيقة على أفراسهم فتقاتلوا في السبخة بين الخندق وسلع وقتل أحدهم قتله علي بن أبي طالب وفرّ صاحباه ، وأصاب سهم غرب سعد بن معاذ في أكحله فكان منه موته في المدينة. ولحقت المسلمين شدّة من الحصار وخوف من كثرة جيش عدوّهم حتى همّ النبيصلىاللهعليهوسلم بأن يصالح الأحزاب على أن يعطيهم نصف ثمر المدينة في عامهم ذلك يأخذونه عند طيبه وكاد أن يكتب معهم كتابا في ذلك ، فاستشار سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فقال سعد بن معاذ : قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك ولا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرى أو بيعا ، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزّنا بك نعطيهم أموالنا! والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم ، فأبطل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما كان عزم عليه.
وأرسل الله على جيش المشركين ريحا شديدة فأزالت خيامهم وأكفأت قدورهم وأطفأت نيرانهم ، واختلّ أمرهم ، وهلك كراعهم وخفهم ، وحدث تخاذل بينهم وبين قريظة وظنت قريش أن قريظة صالحت المسلمين وأنهم ينضمون إلى المسلمين على قتال الأحزاب ، فرأى أهل الأحزاب الرأي في أن يرتحلوا فارتحلوا عن المدينة وانصرف جيش المسلمين راجعا إلى المدينة.
فقوله تعالى (إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) ذكر توطئة لقوله (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً) إلخ لأن ذلك هو محلّ المنّة. والريح المذكورة هنا هي ريح الصّبا وكانت باردة وقلعت الأوتاد والأطناب وسفت التراب في عيونهم وماجت الخيل بعضها في بعض وهلك كثير من خيلهم وإبلهم وشائهم. وفيها قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «نصرت بالصّبا وأهلكت عاد بالدبور».
والجنود التي لم يروها هي جنود الملائكة الذين أرسلوا الريح وألقوا التخاذل بين