(يَسْتَأْذِنُ) إيماء إلى أنه لم يأذن لهم وستعلم ذلك ، ومنازل بني حارثة كانت في أقصى المدينة قرب منازل بني سلمة فإنهما كانا حيين متلازمين قال تعالى : (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) [آل عمران : ١٢٢] هما بنو حارثة وبنو سلمة في غزوة أحد. وفي الحديث : أن بني سلمة راموا أن ينقلوا منازلهم قرب المسجد فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «يا بني سلمة ألا تحتسبون آثاركم» أي خطاكم. فهذا الفريق منهم يعتلّون بأن منازلهم بعيدة عن المدينة وآطامها.
والتأكيد بحرف (إِنَ) في قولهم (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) تمويه لإظهار قولهم (بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) في صورة الصدق. ولما علموا أنهم كاذبون وأن النبي صلىاللهعليهوسلم يعلم كذبهم جعلوا تكذيبه إياهم في صورة أنه يشك في صدقهم فأكدوا الخبر.
وجملة (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) إلى قوله (مَسْؤُلاً) [الأحزاب : ١٥] معترضة بين جملة (يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ) إلخ وجملة (لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ) [الأحزاب : ١٦]. فقوله : (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) تكذيب لهم فإن المدينة كانت محصنة يومئذ بخندق وكان جيش المسلمين حارسها.
ولم يقرن هذا التكذيب بمؤكد لإظهار أن كذبهم واضح غير محتاج إلى تأكيد.
(وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤))
موقع هذه الآية زيادة تقرير لمضمون جملة (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) [الأحزاب : ١٣] فإنها لتكذيبهم في إظهارهم التخوف على بيوتهم ، ومرادهم خذل المسلمين. ولم أجد فيما رأيت من كلام المفسرين ولا من أهل اللغة من أفصح عن معنى (الدخول) في مثل هذه الآية وما ذكروا إلّا معنى الولوج إلى المكان مثل ولوج البيوت أو المدن ، وهو الحقيقة. والذي أراه أن الدخول كثر إطلاقه على دخول خاص وهو اقتحام الجيش أو المغيرين أرضا أو بلدا لغزو أهله ، قال تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً) إلى قوله : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) [المائدة : ٢١] ، وأنه يعدّى غالبا إلى المغزوّين بحرف على. ومنه قوله تعالى : (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) إلى قوله : (قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا) [المائدة : ٢٤] فإنه ما يصلح إلا معنى دخول القتال والحرب لقوله : (فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ) لظهور أنه لا يراد : إذا دخلتم دخول ضيافة أو تجول أو تجسس ، فيفهم من الدخول في مثل هذا المقام معنى الغزو والفتح كما