الاستقرار في المكان وهو هنا مستعار للإبطاء ، أي ما أبطئوا بالسعي في الفتنة ولا خافوا أن تؤخذ بيوتهم. والمعنى : لو دخلت جيوش الأحزاب المدينة وبقي جيش المسلمين خارجها ـ أي مثلا لأن الكلام على الفرض والتقدير ـ وسأل الجيش الداخل الفريق المستأذنين أن يلقوا الفتنة في المسلمين بالتفريق والتخذيل لخرجوا لذلك القصد مسرعين ولم يثبطهم الخوف على بيوتهم أن يدخلها اللصوص أو ينهبها الجيش : إما لأنهم آمنون من أن يلقوا سوءا من الجيش الداخل لأنهم أولياء له ومعاونون ، فهم منهم وإليهم ، وإما لأن كراهتهم الإسلام تجعلهم لا يكترثون بنهب بيوتهم.
والاستثناء في قوله (إِلَّا يَسِيراً) يظهر أنه تهكم بهم فيكون المقصود تأكيد النفي بصورة الاستثناء. ويحتمل أنه على ظاهره ، أي إلا ريثما يتأملون فلا يطيلون التأمل فيكون المقصود من ذكره تأكيد قلة التلبّث ، فهذا هو التفسير المنسجم مع نظم القرآن أحسن انسجام.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو جعفر لأتوها بهمزة تليها مثناة فوقية ، وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف (لَآتَوْها) بألف بعد الهمزة على معنى : لأعطوها ، أي : لأعطوا الفتنة سائليها ، فإطلاق فعل أتوها مشاكلة لفعل (سُئِلُوا).
(وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥))
هؤلاء هم بنو حارثة وبنو سلمة وهم الذين قال فريق منهم (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) [الأحزاب : ١٣] واستأذن النبي صلىاللهعليهوسلم أي كانوا يوم أحد جبنوا ثم تابوا وعاهدوا النبي صلىاللهعليهوسلم أنهم لا يولّون الأدبار في غزوة بعدها ، وهم الذين نزل فيهم قوله تعالى : (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما) [آل عمران : ١٢٢] ؛ فطرأ على نفر من بني حارثة نفاق وضعف في الإيمان فذكّرهم الله بذلك وأراهم أن منهم فريقا قلّبا لا يرعى عهدا ولا يستقر لهم اعتقاد وأن ذلك لضعف يقينهم وغلبة الجبن عليهم حتى يدعوهم إلى نبذ عهد الله. وهذا تنبيه للقبيلين ليزجروا من نكث منهم. وتأكيد هذا الخبر بلام القسم وحرف التحقيق وفعل كان ، مع أن الكلام موجه إلى المؤمنين تنزيلا للسامعين منزلة من يتردد في أنهم عاهدوا الله على الثبات.