(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣))
أعقب الثناء على جميع المؤمنين الخلص على ثباتهم ويقينهم واستعدادهم للقاء العدوّ الكثير يومئذ وعزمهم على بذل أنفسهم ولم يقدر لهم لقاؤه كما يأتي في قوله (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) [الأحزاب : ٢٥] بالثناء على فريق منهم كانوا وفّوا بما عاهدوا الله عليه وفاء بالعمل والنية ، ليحصل بالثناء عليهم بذلك ثناء على إخوانهم الذين لم يتمكنوا من لقاء العدوّ يومئذ ليعلم أن صدق أولئك يؤذن بصدق هؤلاء لأن المؤمنين يد واحدة.
والإخبار عنهم برجال زيادة في الثناء لأن الرجل مشتق من الرّجل وهي قوة اعتماد الإنسان كما اشتق الأبد من اليد ، فإن كانت هذه الآية نزلت مع بقية آي السورة بعد غزوة الخندق فهي تذكير بما حصل من المؤمنين من قبل ، وإن كانت نزلت يوم أحد فموضعها في هذه السورة إنما هو بتوقيف من النبي صلىاللهعليهوسلم فهو تنبيه على المعنى الذي ذكرناه على تقدير : أنها نزلت مع سورة الأحزاب. وأيّا ما كان وقت نزول الآية فإن المراد منها : رجال من المؤمنين ثبتوا في وجه العدو يوم أحد وهم : عثمان بن عفان ، وأنس بن النضر ، وطلحة بن عبيد الله ، وحمزة ، وسعيد بن زيد ، ومصعب بن عمير. فأما أنس بن النضر وحمزة ومصعب بن عمير فقد استشهدوا يوم أحد ، وأما طلحة فقد قطعت يده يومئذ وهو يدافع عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وأما بقيتهم فقد قاتلوا ونجوا. وسياق الآية وموقعها يقتضيان أنها نزلت بعد وقعة الخندق. وذكر القرطبي رواية البيهقي عن أبي هريرة : «أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين انصرف من أحد مرّ على مصعب بن عمير وهو مقتول على طريقه فوقف ودعا له ثمّ تلا (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) الآية.
ومعنى (صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) أنهم حققوا ما عاهدوا عليه فإن العهد وعد وهو إخبار بأنه يفعل شيئا في المستقبل فإذا فعله فقد صدق. وفعل الصدق يستعمل قاصرا وهو الأكثر ، ويستعمل متعديا إلى المخبر ـ بفتح الباء ـ يقال : صدقه الخبر ، أي قال له الصدق ، ولذلك فإن تعديته هنا إلى (ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) إنما هو على نزع الخافض ، أي : صدقوا فيما عاهدوا الله عليه ، كقولهم في المثل : صدقني سنّ بكره ، أي : في سن بكره.
والنحب : النذر وما يلتزمه الإنسان من عهد ونحوه ، أي : من المؤمنين من وفّى بما