وقد فصّلت هذه الدلائل على أربعة استئنافات متماثلة الأسلوب ، ابتدئ كل واحد منها باسم الجلالة مجرى عليه أخبار عن حقائق لا قبل لهم بدحضها لأنهم لا يسعهم إلا الإقرار ببعضها أو العجز عن نقض دليلها.
فالاستئناف الأول المبدوء بقوله (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) ، والثاني المبدوء بقوله (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ) [الروم : ٤٠] ، والثالث المبدوء بقوله (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) [الروم : ٤٨] ، والرابع المبدوء بقوله : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) [الروم : ٥٤].
فأما قوله : (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) فاستدلال بما لا يسعهم إلا الاعتراف به وهو بدء الخلق إذ لا ينازعون في أن الله وحده هو خالق الخلق ولذلك قال الله تعالى (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) [الرعد : ١٦] الآية. وأما قوله (ثُمَّ يُعِيدُهُ) فهو إدماج لأنه إذا سلم له بدء الخلق كان تسليم إعادته أولى وأجدر. وحسن موقع الاستئناف وروده بعد ذكر أمم غابرة وأمم حاضرة خلف بعضها بعضا ، وإذ كان ذلك مثالا لإعادة الأشخاص بعد فنائها وذكر عاقبة مصير المكذبين للرسل في العاجلة ، ناسب في مقام الاعتبار أن يقام لهم الاستدلال على إمكان البعث ليقع ذكر ما يعقبه من الجزاء موقع الإقناع لهم.
وتقديم اسم الجلالة على المسند الفعلي لمجرد التقوّي. و (ثُمَ) هنا للتراخي الرتبي كما هو شأنها في عطف الجمل ، وذلك أن شأن الإرجاع إلى الله أعظم من إعادة الخلق إذ هو المقصد من الإعادة ومن بدء الخلق. فالخطاب في (تُرْجَعُونَ) للمشركين على طريقة الالتفات من الغيبة إلى الخطاب.
وقرأ الجمهور (تُرْجَعُونَ) بتاء الخطاب. وقرأه أبو عمرو وأبو بكر عن عاصم وروح عن يعقوب بياء الغيبة على طريقة ما قبله.
[١٢ ـ ١٣] (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣))
عطف على جملة (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [الروم : ١١] تبيينا لحال المشركين في وقت ذلك الإرجاع كأنه قيل : ثم إليه ترجعون ويومئذ يبلس المجرمون. وله مزيد اتصال بجملة (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى) [الروم : ١٠] ، وكان مقتضى الظاهر أن يقال ويومئذ يبلس المجرمون أو يومئذ تبلسون ، أي ويوم ترجعون إليه يبلس المجرمون ، فعدل عن تقدير