مع تراخي الرتبة الذي هو الأصل في عطف الجمل بحرف (ثُمَ).
وصدرت الجملة بحرف المفاجأة لأن الكون بشرا يظهر للناس فجأة بوضع الأجنة أو خروج الفراخ من البيض ، وما بين ذلك من الأطوار التي اقتضاها حرف المهلة هي أطوار خفية غير مشاهدة ؛ فكان الجمع بين حرف المهلة وحرف المفاجأة تنبيها على ذلك التطور العجيب. وحصل من المقارنة بين حرف المهلة وحرف المفاجأة شبه الطباق وإن كان مرجع كل من الحرفين غير مرجع الآخر.
والانتشار : الظهور على الأرض والتباعد بين الناس في الأعمال قال تعالى (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) [الجمعة : ١٠].
(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١))
هذه آية ثانية فيها عظة وتذكير بنظام الناس العام وهو نظام الازدواج وكينونة العائلة وأساس التناسل ، وهو نظام عجيب جعله الله مرتكزا في الجبلة لا يشذ عنه إلا الشذاذ.
وهي آية تنطوي على عدة آيات منها : أن جعل للإنسان ناموس التناسل ، وأن جعل تناسله بالتزاوج ولم يجعله كتناسل النبات من نفسه ، وأن جعل أزواج الإنسان من صنفه ولم يجعلها من صنف آخر لأن التأنس لا يحصل بصنف مخالف ، وأن جعل في ذلك التزاوج أنسا بين الزوجين ولم يجعله تزاوجا عنيفا أو مهلكا كتزاوج الضفادع ، وأن جعل بين كل زوجين مودة ومحبة فالزوجان يكونان من قبل التزاوج متجاهلين فيصبحان بعد التزاوج متحابين ، وأن جعل بينهما رحمة فهما قبل التزاوج لا عاطفة بينهما فيصبحان بعد التزاوج متحابين ، وأن جعل بينهما رحمة فهما قبل التزاوج لا عاطفة بينهما فيصبحان بعده متراحمين كرحمة الأبوة والأمومة ، ولأجل ما ينطوي عليه هذا الدليل ويتبعه من النعم والدلائل جعلت هذه الآية آيات عدة في قوله (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). وهذه الآية كائنة في خلق جوهر الصنفين من الإنسان : صنف الذكر ، وصنف الأنثى ، وإبداع نظام الإقبال بينهما في جبلتهما. وذلك من الذاتيات النسبية بين الصنفين. وقد أدمج في الاعتبار بهذه الآية امتنان بنعمة في هذه الآية أشار إليها قوله (لَكُمْ) أي لأجل نفعكم.
و (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) متعلق ب (لَآياتٍ) لما فيه من معنى الدلالة. وجعلت الآيات لقوم يتفكرون لأن التفكر والنظر في تلك الدلائل هو الذي يجلي كنهها ويزيد الناظر بصارة بمنافع أخرى في ضمنها.