عند قوله تعالى (فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ).
وأدمج في خلال الإنكار عليهم قوله (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) لتنبيههم إلى أن ما يصيبهم من حالة سيئة في الدنيا إنما سببها أفعالهم التي جعلها الله أسبابا لمسببات مؤثرة لا يحيط بأسرارها ودقائقها إلا الله تعالى ، فما على الناس إلا أن يحاسبوا أنفسهم ويجروا أسباب إصابة السيئات ، ويتداركوا ما فات ، فذلك أنجى لهم من السيئات وأجدر من القنوط. وهذا أدب جليل من آداب التنزيل قال تعالى (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) [النساء : ٧٩].
وقرأ الجمهور (يَقْنَطُونَ) بفتح النون على أنه مضارع قنط من باب حسب. وقرأه أبو عمرو الكسائي بكسر النون على أنه مضارع قنط من باب ضرب وهما لغتان فيه.
ثم أنكر عليهم إهمال التأمل في سنّة الله الشائعة في الناس : من لحاق الضر وانفراجه ، ومن قسمة الحظوظ في الرزق بين بسط وتقتير فإنه كثير الوقوع كل حين فكما أنهم لم يقنطوا من بسط الرزق عليهم في حين تقتيره فكدحوا في طلب الرزق بالأسباب والدعاء فكذلك كان حقهم أن يتلقوا السوء النادر بمثل ما يتلقون به ضيق الرزق ، فيسعوا في كشف السيئة بالتوبة والابتهال إلى الله وبتعاطي أسباب زوالها من الأسباب التي نصبها الله تعالى ، فجملة (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ) إلخ عطف على جملة (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها). والاستفهام إنكاري في معنى النفي ؛ أنكر عليهم عدم الرؤية تنزيلا لرؤيتهم ذلك منزلة عدم الرؤية لإهمال آثارها من الاعتبار بها. فالتقدير : إذا هم يقنطون كيف لم يروا بسط الله الرزق وتقتيره كأنهم لم يروا ذلك. والرؤية بصرية.
وجملة (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) تذييل ، أي في جميع ما ذكر آيات كثيرة حاصلة كثرتها من اشتمال كل حالة من تلك الأحوال على أسباب خفية وظاهرة ، ومسبباتها كذلك ، ومن تعدد أحوال الناس من الاعتبار بها والأخذ منها ، كل على حسب استعداده. وخص القوم المؤمنون بذلك لأنهم أعمق بصائر بما ارتاضت عليه أنفسهم من آداب الإيمان ومن نصب أنفسهم لطلب العلم والحكمة من علوم الدين وحكمة النبوءة.
(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨))
فاء التفريع تفيد أن الكلام بعدها مترتب على الكلام الذي قبلها ، وقد اشتمل الكلام