وجملة (يَرْزُقُكُمْ) يجوز أن تكون وصفا ثانيا ل (خالِقٍ). ويجوز أن تكون استئنافا بيانيا.
وجعل النفي متوجها إلى القيد وهو جملة الصفة كما هي سنّته في الكلام المقيّد لأن المقصود التذكير بنعم الله تعالى ليشكروا ، ويكون ذلك كناية عن الاستدلال على انتفاء وصف الخالقية عن غيره تعالى لأنه لو كان غيره خالقا لكان رازقا إذ الخلق بدون رزق قصور في الخالقية لأن المخلوق بدون رزق لا يلبث أن يصير إلى الهلاك والعدم فيكون خلقه عبثا ينزه عنه الموصوف بالإلهية المقتضية للحكمة فكانت الآية مذكرة بنعمتي الإيجاد والإمداد.
وزيادة (مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) تذكير بتعدد مصادر الأرزاق ؛ فإن منها سماوية كالمطر الذي منه شراب ، ومنه طهور ، وسبب نبات أشجار وكلإ ، وكالمنّ الذي ينزل على شجر خاص من أندية في الجوّ ، وكالضياء من الشمس ، والاهتداء بالنجوم في الليل ، وكذلك أنواع الطير الذي يصاد ، كلّ ذلك من السماء.
ومن الأرض أرزاق كثيرة من حبوب وثمار وزيوت وفواكه ومعادن وكلإ وكمأة وأسماك البحار والأنهار.
وفي هذا القيد فائدة أخرى وهي دفع توهم الغفّل أن أرزاقا تأتيهم من غير الله من أنواع العطايا التي يعطيها بعضهم بعضا ، والمعاوضات التي يعاوضها بعضهم مع بعض فإنها لكثرة تداولها بينهم قد يلهيهم الشغل بها عن التدبر في أصول منابعها فإن أصول موادها من صنع الله تعالى فآل ما يعطاه الناس منها إلى أنه من الله على نحو ما عرض للذي حاجّ إبراهيم في ربه إذ قال له إبراهيم : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [البقرة : ٢٥٨] فهذا رجل محكوم بقتله ها أنا ذا أعفو عنه فقد أحييته ، وهذا رجل حيّ ها أنا ذا آمر به فيقتل فأنا أميت. فانتقل إبراهيم إلى أن قال له : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) [البقرة : ٢٥٨].
(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ).
هذا نتيجة عقب ذكر الدليل إذ رتّب على انفراده بالخالقية والرازقية انفراده بالإلهية لأن هذين الوصفين هما أظهر دلائل الإلهية عند الناس فجملة (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) مستأنفة. وفرع عليه التعجيب من انصرافهم عن النظر في دلائل الوحدانية بجملة (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ).