يتطرق إلى نقض هدى الله فإن فعل غرّ يتعدّى إلى مفعول واحد فإذا أريد تعديته إلى بعض متعلقاته عدّي إليه بواسطة حرف الجرّ ، فقد يعدّى بالباء وهي باء الملابسة كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الانفطار : ٦] وقوله في سورة الحديد [١٤] : (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) وذلك إذا أريد بيان من الغرور ملابس له على تقدير مضاف ، أي بحال من أحواله. وتلك ملابسة الفعل للمفعول في الكلام على الإيجاز. وليست هذه الباء باء السببية.
وقد تضمنت الآية غرورين : غرورا يغترّه المرء من تلقاء نفسه ويزيّن لنفسه من المظاهر الفاتنة التي تلوح له في هذه الدنيا ما يتوهمه خيرا ولا ينظر في عواقبه بحيث تخفى مضارّه في بادئ الرأي ولا يظنّ أنه من الشيطان.
وغرورا يتلقاه ممن يغرّه وهو الشيطان ، وكذلك الغرور كله في هذا العالم بعضه يمليه المرء على نفسه وبعضه يتلقاه من شياطين الإنس والجن ، فترك تفصيل الغرور الأول الآن اعتناء بالأصل والأهم ، فإن كل غرور يرجع إلى غرور الشيطان. وسيأتي تفصيله عند قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) [فاطر : ١٠].
(إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦))
لما كان في قوله : (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) [فاطر : ٥] إبهام ما في المراد بالغرور عقب ذلك ببيانه بأن الغرور هو الشيطان ليتقرر المسند إليه بالبيان بعد الإبهام. فجملة (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) تتنزل من جملة (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) منزلة البيان من المبيّن فلذلك فصلت ولم تعطف ، وهذا من دلالة ترتيب الكلام على إرادة المتكلم إذ يعلم السامع من وقوع وصف الشيطان عقب وصف الغرور أن الغرور هو الشيطان.
وأظهر اسم الشيطان في مقام الإضمار للإفصاح عن المراد بالغرور أنه الشيطان وإثارة العداوة بين الناس والشيطان معنى من معاني القرآن تصريحا وتضمّنا ، وهو هنا صريح كما في قوله تعالى : (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) [البقرة : ٣٦].
وتلك عداوة مودعة في جبلّته كعداوة الكلب للهرّ لأن جبلة الشيطان موكولة بإيقاع الناس في الفساد وأسوأ العواقب في قوالب محسّنة مزينة ، وشواهد ذلك تظهر للإنسان في نفسه وفي الحوادث حيثما عثر عليها وقد قال تعالى : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما