وقدم تشبيه حال الكافر وكفره على تشبيه حال المؤمن وإيمانه ابتداء لأن الغرض الأهم من هذا التشبيه هو تفظيع حال الكافر ثم الانتقال إلى حسن حال ضده لأن هذا التشبيه جاء لإيضاح ما أفاده القصر في قوله : (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) [فاطر : ١٨] كما تقدم آنفا من أنه قصر إضافي قصر قلب ، فالكافر شبيه بالأعمى في اختلاط أمره بين عقل وجهالة ، كاختلاط أمر الأعمى بين إدراك وعدمه.
والمقصود : أن الكافر وإن كان ذا عقل يدرك به الأمور فإن عقله تمحض لإدراك أحوال الحياة الدنيا وكان كالعدم في أحوال الآخرة كقوله تعالى : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) [الروم : ٧] ، فحاله المقسم بين انتفاع بالعقل وعدمه يشبه حال الأعمى في إدراكه أشياء وعدم إدراكه.
والعمى يعبر به عن الضلال ، قال ابن رواحة :
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا |
|
به موقنات أن ما قال واقع |
ثم شبه الكفر بالظلمات في أنه يجعل الذي أحاط هو به غير متبيّن للأشياء ، فإن من خصائص الظلمة إخفاء الأشياء ، والكافر خفيت عنه الحقائق الاعتقادية ، وكلما بينها له القرآن لم ينتقل إلى أجلى ، كما لو وصفت الطريق للسائر في الظلام.
وجئ في (الظُّلُماتُ) بلفظ الجمع لأنه الغالب في الاستعمال فهم لا يذكرون الظلمة إلّا بصيغة الجمع. وقد تقدم في قوله : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) في الأنعام [١].
وضرب الظلّ مثلا لأثر الإيمان ، وضدّه وهو الحرور مثلا لأثر الكفر ؛ فالظل مكان نعيم في عرف السامعين الأولين ، وهم العرب أهل البلاد الحارة التي تتطلب الظل للنعيم غالبا إلّا في بعض فصل الشتاء ، وقوبل بالحرور لأنه مؤلم ومعذّب في عرفهم كما علمت ، وفي مقابلته بالحرور إيذان بأن المراد تشبيهه بالظل في حالة استطابته.
و (الْحَرُورُ) حر الشمس ، ويطلق أيضا على الريح الحارة وهي السموم ، أو الحرور : الريح الحارة التي تهب بليل والسموم تهب بالنهار.
وقدم في هذه الفقرة ما هو من حال المؤمنين على عكس الفقرات الثلاث التي قبلها لأجل الرعاية على الفاصلة بكلمة (الْحَرُورُ). وفواصل القرآن من متممات فصاحته ، فلها حظ من الإعجاز.
فحال المؤمن يشبه حال الظل تطمئن فيه المشاعر ، وتصدر فيه الأعمال عن تبصر وتريّث وإتقان. وحال الكافر يشبه الحرور تضطرب فيه النفوس ولا تتمكن معه العقول من