ووجه الاقتصار على وصف النذير هنا دون الجمع بينه وبين وصف البشير هو مراعاة العموم الذي في قوله : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) ، فإن من الأمم من لم تحصل لها بشارة لأنها لم يؤمن منها أحد ، ففي الحديث : «عرضت عليّ الأمم فجعل النبي يمرّ معه الرهط ، والنبي يمرّ معه الرجل الواحد ، والنبي يمرّ وحده» الحديث ، فإن الأنبياء الذين مرّوا وحدهم هم الأنبياء الذين لم يستجب لهم أحد من قومهم ، وقد يكون عدم ذكر وصف البشارة للاكتفاء بذكر قرينة اكتفاء بدلالة ما قبله عليه ، وأوثر وصف النذير بالذكر لأنه أشد مناسبة لمقام خطاب المكذبين.
ومعنى الأمة هنا : الجذم العظيم من أهل نسب ينتهي إلى جدّ واحد جامع لقبائل كثيرة لها مواطن متجاورة مثل أمة الفرس وأمة الروم وأمة الصين وأمة الهند وأمة اليونان وأمة إسرائيل وأمة العرب وأمة البربر ؛ فما من أمة من هؤلاء إلّا وقد سبق فيها نذير ، أي رسول أو نبيء ينذرهم بالمهلكات وعذاب الآخرة. فمن المنذرين من علمناهم ، ومنهم من أنذروا وانقرضوا ولم يبق خبرهم قال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) [غافر : ٧٨].
والحكمة في الإنذار أن لا يبقى الضلال رائجا وأن يتخول الله عباده بالدعوة إلى الحق سواء عملوا بها أو لم يعلموا فإنها لا تخلو من أثر صالح فيهم. وإنما لم يسم القرآن إلّا الأنبياء والرسل الذين كانوا في الأمم السّامية القاطنة في بلاد العرب وما جاورها لأن القرآن حين نزوله ابتدأ بخطاب العرب ولهم علم بهؤلاء الأقوام فقد علموا أخبارهم وشهدوا آثارهم فكان الاعتبار بهم أوقع ، ولو ذكرت لهم رسل أمم لا يعرفونهم لكان إخبارهم عنهم مجرد حكاية ولم يكن فيه استدلال واعتبار.
[٢٥ ، ٢٦] (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦))
أعقب الثناء على النبي صلىاللهعليهوسلم بتسليته على تكذيب قومه وتأنيسه بأن تلك سنة الرسل مع أممهم.
وإذ قد كان سياق الحديث في شأن الأمم جعلت التسلية في هذه الآية بحال الأمم مع رسلهم عكس ما في آية آل عمران [١٨٤] : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) لأن سياق آية آل عمران كان في ردّ محاولة أهل