التفتازانيّ في كتاب «المقاصد».
والحق أن الطريقتين جادّتان وقد سلكتا في القرآن.
ويجوز أن تكون جملة (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) عطفا على جملة (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) [سبأ : ٥] فبعد أن أوردت جملة (وَالَّذِينَ سَعَوْا) لمقابلة جملة (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [سبأ : ٤] إلخ اعتبرت مقصودا من جهة أخرى فكانت بحاجة إلى رد مضمونها بجملة (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) للإشارة إلى أن الذين سعوا في الآيات أهل جهالة فيكون ذكرها بعدها تعقيبا للشبهة بما يبطلها وهي الطريقة الأخرى.
والرؤية علمية. واختير فعل الرؤية هنا دون (ويعلم) للتنبيه على أنه علم يقيني بمنزلة العلم بالمرئيات التي علمها ضروري ، ومفعولا (يرى) (الَّذِي أُنْزِلَ) و (الْحَقَ). وضمير (هُوَ) فصل يفيد حصر الحق في القرآن حصرا إضافيا ، أي لا ما يقوله المشركون مما يعارضون به القرآن ، ويجوز أيضا أن يفيد قصرا حقيقيا ادعائيا ، أي قصر الحقيّة المحض عليه لأن غيره من الكتب خلط حقها بباطل.
و (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) فسره بعض المفسرين بأنهم علماء أهل الكتاب من اليهود والنصارى فيكون هذا إخبارا عما في قلوبهم كما في قوله تعالى في شأن الرهبان (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) [المائدة : ٨٣] ، فهذا تحدّ للمشركين وتسلية للرسول صلىاللهعليهوسلم والمؤمنين وليس احتجاجا بأهل الكتاب لأنهم لم يعلنوا به ولا آمن أكثرهم ، أو هو احتجاج بسكوتهم على إبطاله في أوائل الإسلام قبل أن يدعوهم النبي صلىاللهعليهوسلم ويحتج عليهم ببشائر رسلهم وأنبيائهم به فعاند أكثرهم حينئذ تبعا لعامتهم.
وبهذا تتبين أن إرادة علماء أهل الكتاب من هذه الآية لا يقتضي أن تكون نازلة بالمدينة حتى يتوهم الذين توهموا أن هذه الآية مستثناة من مكيات السورة كما تقدم.
والأظهر أن المراد من (الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) من آمنوا بالنبيء صلىاللهعليهوسلم من أهل مكة لأنهم أوتوا القرآن. وفيه علم عظيم هم عالموه على تفاضلهم في فهمه والاستنباط منه ، فقد كان الواحد من أهل مكة يكون فظّا غليظا حتى إذا أسلم رقّ قلبه وامتلأ صدره بالحكمة وانشرح لشرائع الإسلام واهتدى إلى الحق وإلى الطريق المستقيم. وأول مثال لهؤلاء وأشهره وأفضله هو عمر بن الخطاب للبون البعيد بين حالتيه في الجاهلية والإسلام. وهذا