ذكريا ، فالمتعاطفات بها بمنزلة المستأنفات ، فهذه الجملة كالمستأنفة ، و (ثُمَ) للترقي في الاستئناف. وهذا ارتقاء في التنويه بالقرآن المتضمن التنويه بالرسول صلىاللهعليهوسلم وعروج في مسرّته وتبشيره ، فبعد أن ذكّر بفضيلة كتابه وهو أمر قد تقرر لديه زيد تبشيرا بدوام كتابه وإيتائه أمة هم المصطفون من عباد الله تعالى ، وتبشيره بأنهم يعملون به ولا يتركونه كما ترك أمم من قبله كتبهم ورسلهم ، لقوله : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) الآية ، فهذه البشارة أهم عند النبيصلىاللهعليهوسلم من الإخبار بأن القرآن حق مصدق لما بين يديه ، لأن هذه البشارة لم تكن معلومة عنده فوقعها أهمّ.
وحمل الزمخشري (ثُمَ) هنا على التراخي الزمني فاحتاج إلى تكلف في إقامة المعنى.
والمراد ب (الْكِتابَ) الكتاب المعهود وهو الذي سبق ذكره في قوله : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) [فاطر : ٣١] أي القرآن.
و (أَوْرَثْنَا) جعلنا وارثين. يقال : ورث ، إذا صار إليه مال ميت قريب. ويستعمل بمعنى الكسب عن غير اكتساب ولا عوض ، فيكون معناه : جعلناهم آخذين الكتاب منا ، أو نجعل الإيراث مستعملا في الأمر بالتلقي ، أي أمرنا المسلمين بأن يرثوا القرآن ، أي يتلقوه من الرسول صلىاللهعليهوسلم ، وعلى الاحتمالين ففي الإيراث معنى الإعطاء فيكون فعل (أَوْرَثْنَا) حقيقا بأن ينصب مفعولين. وكان مقتضى الظاهر أن يكون أحد المفعولين الذي هو الآخذ في المعنى هو المفعول الأول والآخر ثانيا ، وإنما خولف هنا فقدّم المفعول الثاني لأمن اللبس قصدا للاهتمام بالكتاب المعطى. وأما التنويه بآخذي الكتاب فقد حصل من الصلة.
والمراد بالذين اصطفاهم الله : المؤمنون كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) إلى قوله : (هُوَ اجْتَباكُمْ) [الحج : ٧٧ ، ٧٨]. وقد اختار الله للإيمان والإسلام أفضل أمة من الناس ، وقد رويت أحاديث كثيرة تؤيد هذا المعنى في مسند أحمد بن حنبل وغيره ذكرها ابن كثير في «تفسيره».
ولما أريد تعميم البشارة مع بيان أنهم مراتب فيما بشروا به جيء بالتفريع في قوله : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) إلى آخره ، فهو تفصيل لمراتب المصطفين لتشمل البشارة جميع أصنافهم ولا يظن أن الظالم لنفسه محروم منها ، فمناط الاصطفاء هو الإيمان والإسلام وهو الانقياد بالقول والاستسلام.