وقدم في التفصيل ذكر الظالم لنفسه لدفع توهم حرمانه من الجنة وتعجيلا لمسرّته.
والفاء في قوله : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) إلخ تفصيل لأحوال الذين أورثوا الكتاب أي أعطوا القرآن. وضمير «منهم» الأظهر أنه عائد إلى (الَّذِينَ اصْطَفَيْنا) ، وذلك قول الحسن وعليه فالظالم لنفسه من المصطفين. وقيل هو عائد إلى (عِبادِنا) أي ومن عبادنا علمه والإطلاق. وهو قول ابن عباس وعكرمة وقتادة والضحاك ، وعليه فالظالم لنفسه هو الكافر. ويسري أثر هذا الخلاف في محمل ضمير (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها)[فاطر : ٣٣] ولذلك يكون قول الحسن جاريا على وفاق ما روي عن عمر وعثمان وابن مسعود وأبي الدرداء وعقبة بن عمرو وما هو مروي عن عائشة وهو الراجح.
والظالمون لأنفسهم هم الذين يجرّون أنفسهم إلى ارتكاب المعصية فإن معصية المرء ربّه ظلم لنفسه لأنه يورطها في العقوبة المعينة للمعاصي على تفصيلها وذلك ظلم للنفس لأنه اعتداء عليها إذ قصر بها عن شيء من الخيرات قليل أو كثير ، وورطها فيما تجد جزاء ذميما عليه. قال تعالى حكاية عن آدم وحواء حين خالفا ما نهيا عنه من أكل الشجرة (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) [الأعراف : ٢٣] وقال : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ١١٠] وقال : (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) في سورة النمل [١١] ، وقال : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً) في سورة الزمر [٥٣].
واللام في (لِنَفْسِهِ) لام التقوية لأن العامل فرع في العمل إذ هو اسم فاعل.
والمقتصد : هو غير الظالم نفسه كما تقتضيه المقابلة ، فهم الذين اتقوا الكبار ولم يحرموا أنفسهم من الخيرات المأمور بها وقد يلمون باللمم المعفو عنه من الله ، ولم يأتوا بمنتهى القربات الرافعة للدرجات ، فالاقتصاد افتعال من القصد وهو ارتكاب القصد وهو الوسط بين طرفين يبينه المقام ، فلما ذكر هنا في مقابلة الظالم والسابق علم أنه مرتكب حالة بين تينك الحالتين فهو ليس بظالم لنفسه وليس بسابق.
والسابق أصله : الواصل إلى غاية معينة قبل غيره من الماشين إليها. وهو هنا مجاز لإحراز الفضل لأن السابق يحرز السبق (بفتح الباء) ، أو مجاز في بذل العناية لنوال رضى الله ، وعلى الاعتبارين في المجاز فهو مكنّى عن الإكثار من الخير لأن السبق يستلزم إسراع الخطوات ، والإسراع إكثار. وفي هذا السبق تفاوت أيضا كخيل الحلبة.