وقرأ أبو بكر عن عاصم (فَعَزَّزْنا) بتخفيف الزاي الأولى ، وفعل عزّ بمعنى يحيي مرادفا لعزّز كما قالوا شدّ وشدّد.
وتأكيد قولهم : (إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) لأجل تكذيبهم إياهم فأكدوا الخبر تأكيدا وسطا ، ويسمى هذا ضربا طلبيا.
وتقديم المجرور للاهتمام بأمر المرسل إليهم المقصود إيمانهم بعيسى.
(قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥))
كان أهل (أنطاكية) والمدن المجاورة لها خليطا من اليهود وعبدة الأصنام من اليونان ، فقوله : (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) صالح لأن يصدر من عبدة الأوثان وهو ظاهر لظنهم أن الآلهة لا تبعث الرسل ولا توحي إلى أحد ، ولذلك جاء في سفر أعمال الرسل (١) أن بعض اليونان من أهل مدينة (لسترة) رأوا معجزة من بولس النبي فقالوا بلسان يوناني : إن الآلهة تشبهوا بالناس ونزلوا إلينا فكانوا يدعون (برنابا) (زفس). أي كوكب المشتري ، و (بولس) (هرمس) أي كوكب عطارد وجاءهما كاهن (زفس) بثيران ليذبحها لهما ، وأكاليل ليضعها عليهما ، فلما رأى ذلك (بولس وبرنابا) مزّقا ثيابهما وصرخا : نحن بشر مثلكم نعظكم أن ترجعوا عن هذه الأباطيل إلى الإله الحي الذي خلق السماوات والأرض إلخ.
وصالح لأن يصدر من اليهود الذين لم يتنصّروا لأن ذلك القول يقتضي أنهما وبقية اليهود سواء وأن لا فضل لهما بما يزعمون من النبوءة ويقتضي إنكار أن يكون الله أنزل شيئا ، أي بعد التوراة. فمن إعجاز القرآن جمع مقالة الفريقين في هاتين الجملتين.
واختيار وصف (الرَّحْمنُ) في حكاية قول الكفرة (وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) لكونه صالحا لعقيدة الفريقين لأن اليونان لا يعرفون اسم الله ، وربّ الأرباب عندهم هو (زفس) وهو مصدر الرحمة في اعتقادهم ، واليهود كانوا يتجنبون النطق باسم الله الذي هو في لغتهم (يهوه) فيعوضونه بالصفات.
__________________
(١) انظر «الإصحاح» ١٤.