يستصعب عليها طمس أعينهم ولا مسخهم كما غيّر خلقة المعمرين من قوة إلى ضعف ، فيكون قياس تقريب من قبيل ما يسمى في أصول الفقه بالقياس الخفيّ وبالأدون ، فيكون معطوفا على علة مقدرة في الكلام كأنه قيل : لو نشأ لطمسنا إلخ لأنا قادرون على قلب الأحوال ، ألا يرون كيف نقلب خلق الإنسان فنجعله على غير ما خلقناه أولا. وبعد هذا كله فموقع واو العطف غير شديد الانتظام. وجعلها بعض المفسرين واقعة موقع الاستدلال على المكان البعيد ، أي أن الذي قدر على تغيير خلقهم من شباب إلى هرم قادر على أن يبعثهم بعد الموت فهو أيضا قياس تقريب بالخفيّ وبالأدون.
ومنهم من تكلم عليها معرضا عما قبلها فتكلموا على معناها وما فيها من العبرة ولم يبيّنوا وجه اتصالها بما قبلها. ومنهم من جعلها لقطع معذرة المشركين في ذلك اليوم أن يقولوا : ما لبثنا في الدنيا إلّا عمرا قليلا ولو عمّرنا طويلا لما كان منا تقصير ، وهو بعيد عن مقتضى قوله : (نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ). وكل هذه التفاسير تحوم حول جعل الخلق بالمعنى المصدري ، أي في خلقته أو في أثر خلقه.
وكل هذه التفسيرات بعيد عن نظم الكلام ، فالذي يظهر أن الذي دفع المفسرين إلى ذلك هو ما ألفه الناس من إطلاق التعمير على طول عمر المعمّر ، فلما تأولوه بهذا المعنى ألحقوا تأويل (نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ) على ما يناسب ذلك.
والوجه عندي أن لكون جملة (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ) عطفا على جملة (وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ) [يس : ٦٧] فهي جملة شرطية عطفت على جملة شرطية ، فالمعطوف عليها جملة شرط امتناعي والمعطوفة جملة شرط تعليقي ، والجملة الأولى أفادت إمهالهم والإملاء لهم ، والجملة المعطوفة أفادت إنذارهم بعاقبة غير محمودة ووعيدهم بحلولها بهم ، أي إن كنا لم نمسخهم ولم نطمس على عيونهم فقد أبقيناهم ليكونوا مغلوبين أذلة ، فمعنى (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ) من نعمره منهم.
فالتعمير بمعنى الإبقاء ، أي من نبقيه منهم ولا نستأصله منهم ، أي من المشركين فجعله بين الأمم دليلا ، فالتعمير المراد هنا كالتعمير الذي في قوله تعالى : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) [فاطر : ٣٧] ، بأن معناها : ألم نبقكم مدة من الحياة تكفي المتأمل وهو المقدر بقوله : (ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ). وليس المراد من التعمير فيها طول الحياة وإدراك الهرم كالذي في قولهم : فلان من المعمّرين ، فإن ذلك لم يقع بجميع أهل النار الذين خوطبوا بقوله : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ). وقد طويت في الكلام جملة تقديرها : ولو نشاء