سيروا بينها.
وكانوا يسيرون غدوّا وعشيّا فيسيرون الصباح ثم تعترضهم قرية فيريحون فيها ويقيلون ، ويسيرون المساء فتعترضهم قرية يبيتون بها. فمعنى قوله : (سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً) : سيروا كيف شئتم.
وتقديم الليالي على الأيام للاهتمام بها في مقام الامتنان لأن المسافرين أحوج إلى الأمن في الليل منهم إليه في النهار لأن الليل تعترضهم فيه القطاع والسباع.
(فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩))
الفاء من قوله : (فَقالُوا رَبَّنا) لتعقيب قولهم هذا إثر إتمام النعمة عليهم باقتراب المدن وتيسير الأسفار ، والتعقيب في كل شيء بحسبه ، فلما تمت النعمة بطروها فحلت بهم أسباب سلبها عنهم.
ومن أكبر أسباب زوال النعمة كفرانها. قال الشيخ ابن عطاء الله الإسكندري «من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها ومن شكرها فقد قيدها بعقالها».
والأظهر عندي أن يكون هذا القول قالوه جوابا عن مواعظ أنبيائهم والصالحين منهم حين ينهونهم عن الشرك فهم يعظونهم بأن الله أنعم عليهم بتلك الرفاهية وهم يجيبون بهذا القول إفحاما لدعاة الخير منهم على نحو قول كفار قريش : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [الأنفال : ٣٢] ، قبل هذا «فأعرضوا فإن الإعراض يقتضي دعوة لشيء» ويفيد هذا المعنى قوة (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) عقب حكاية قولهم ، فإنه إما معطوف على جملة (فَقالُوا) ، أي فأعقبوا ذلك بكفران النعمة وبالإشراك ، فإن ظلم النفس أطلق كثيرا على الإشراك في القرآن وما الإشراك إلّا أعظم كفران نعمة الخالق.
ويجوز أن تكون جملة (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) في موضع الحال ، والواو واو الحال ، أي قالوا ذلك وقد ظلموا أنفسهم بالشرك فكان قولهم مقارنا للإشراك.
وعلى الاعتبارين فإن العقاب إنما كان مسببا بسببين كما هو صريح قوله : (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ) إلى قوله : (إِلَّا الْكَفُورَ) [سبأ : ١٦ ،