إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١))
(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ).
كان المشركون لما فاجأتهم دعوة الإسلام وأخذ أمره في الظهور قد سلكوا طرائق مختلفة لقمع تلك الدعوة ، وقد كانوا قبل ظهور الإسلام لاهين عن الخوض فيما سلف من الشرائع فلما قرعت أسماعهم دعوة الإسلام اضطربت أقوالهم : فقالوا : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٩١] ، وقالوا غير ذلك ، فمن ذلك أنهم لجئوا إلى أهل الكتاب وهم على مقربة منهم بالمدينة وخيبر وقريظة ليتلقّوا منهم ملقّنات يفحمون بها النبي صلىاللهعليهوسلم فكان أهل الكتب يملون عليهم كلما لقوهم ما عساهم أن يموّهوا على الناس عدم صحة الرسالة المحمدية ، فمرة يقولون : (لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) [القصص : ٤٨] ، ومرة يقولون : (لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) [الإسراء : ٩٣] ، وكثيرا ما كانوا يحسبون مساواته للناس في الأحوال البشرية منافية لكونه رسولا إليهم مختارا من عند الله فقالوا : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان : ١٧] وإلى قوله : (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٣] ، وهم لا يحاجّون بذلك عن اعتقاد بصحة رسالة موسى عليهالسلام ولكنهم يجعلونه وسيلة لإبطال رسالة محمد صلىاللهعليهوسلم فلما دمغتهم حجج القرآن العديدة الناطقة بأن محمدا ما هو بدع من الرسل وأنه جاء بمثل ما جاءت به الرسل فحاجّهم بقوله : (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [القصص : ٤٩] الآية. فلما لما يجدوا سبيلا للمكابرة في مساواة حاله بحال الرسل الأولين وأووا إلى مأوى الشرك الصريح فلجأوا إلى إنكار رسالة الرسل كلهم حتى لا تنهض عليهم الحجة بمساواة أحوال الرسول وأحوال الرسل الأقدمين فكان من مستقر أمرهم أن قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ).
وقد كان القرآن حاجّهم بأنهم كفروا (بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) كما في سورة القصص [٤٨] ، أي كفر أمثالهم من عبدة الأصنام وهم قبط مصر بما أوتي موسى وهو من الاستدلال بقياس المساواة والتمثيل.
فهذا وجه قولهم : (وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) لأنهم لم يكونوا مدعوّين لا يؤمنوا بكتاب آخر غير القرآن ولكن جرى ذلك في مجاري الجدال والمناظرة فعدم إيمانهم بالقرآن مشهور معلوم وإنما أرادوا قطع وسائل الإلزام الجدلي.