ثم حكي تكذيبهم الذي يعم جميع ما جاء به الرسول صلىاللهعليهوسلم من وحي يتلى أو دعوة إلى التوحيد وغيره أو استدلال عليه أو معجزة بقولهم : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ، فهذا المقال الثالث يشمل ما تقدم وغيره ، فحكاية مقالهم هذا تقوم مقام التذييل. وأظهر للقائلين دون إضمار ما تقدم ما يصح أن يكون معادا للضمير فقيل : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) ولم يقل : وقالوا للحق لما جاءهم ، للدلالة على أن الكفر هو باعث قولهم هذا.
وأظهر المشار إليه قبل اسم الإشارة في قوله : (لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) لأنه لا دليل عليه في الكلام السابق ، أي إذ ظهر لهم ما هو حق من إثبات للتوحيد أو إخبار عن الغيب أو البعث قالوا : ما هذا إلّا سحر مبين. فالمراد من الحق : ما هو أعم من آيات القرآن لأن السحر له أسلوبان : أحدهما شعوذة الأقوال التي لا تفهم مدلولاتها يختلقها السحرة ليوهموا الناس أن فيها مناجاة مع الجن ليمكنوهم من عمل ما يريدون فيسترهبوهم بذلك ، وثانيهما أفعال لها أسباب خفية مستورة بحيل وخفة أيد تحركها فيوهمون بها الناس أنها من تمكين الجن إياهم التصرف في الخفيات ، فإذا سمعوا القرآن ألحقوه بالأسلوب الأول ، وإذا رأوا المعجزات ألحقوها بالأسلوب الثاني كما قالت المرأة التي شاهدت معجزة تكثير الماء في بعض غزوات النبي صلىاللهعليهوسلم فقالت لقومها «أتيت أسحر الناس ، أو هو نبيء كما زعموه».
ومعنى (مُبِينٌ) أنه يظهر منه أنه سحر فتبيينه كنهه من نفسه ، يعنون أن من سمعه يعلم أنه سحر.
وجملة (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) معطوفة على جملة (وَإِذا تُتْلى).
(وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤))
الواو للحال ، والجملة في موضع الحال من الضمير في قوله : (قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ) [سبأ : ٤٣] الآية ، تحميقا لجهالتهم وتعجيبا من حالهم في أمرين :
«أحدهما» : أنهم لم يدركوا ما ينالهم من المزية بمجيء الحق إليهم إذ هيأهم الله به لأن يكونوا في عداد الأمم ذوي الكتاب ، وفي بدء حال يبلغ بهم مبلغ العلم ، إذ هم لم يسبق لهم أن أتاهم كتاب من عند الله أو رسول منه ، فيكون معنى الآية : فكيف رفضوا اتّباع الرسول وتلقي القرآن وكان الأجدر بهم الاغتباط بذلك. وهذا المعنى هو المناسب